العدد 3899 - الجمعة 10 مايو 2013م الموافق 29 جمادى الآخرة 1434هـ

الدلمونيون الأوائل: هوية الجماعة ومنظومة التعايش

منذ بداية الحضارة في جنوب الرافدين نشأت هناك علاقة بين الجنوب وبين الساحل الشرقي للخليج العربي وتحديداً في الحقبة العبيدية الممتدة ما بين 5300 و 4300 ق. م. (Carter 2006).

بعد ذلك حدثت قطيعة بينهما، وربما يعود ذلك إلى تغير الظروف المناخية التي أدت إلى أن تكون منطقة شرق الجزيرة العربية شبه خالية من السكان (Uerpmann 2003).

ثم بدأت العلاقات تعود قرابة العام 3300 ق. م. أي في حقبة جمدة نصر، حيث عثر على آثار في شرق الجزيرة العربية تدل على وجود استيطان يمتد من 3300 ق. م. وحتى 2400 ق.م (Piesinger 1983, p. 467).

أما في جزيرة البحرين فلم يعثر على دليل واحد، ذي قيمة، يدل على وجود استيطان عليها في هذه الحقبة (بوتس 2003، ج1، ص 172). أما في جنوب الرافدين، فقد بدأت سومر في حقبة جمدة نصر (3200- 2900 ق. م.) التي تميزت بحدوث تغيرات اجتماعية واقتصادية انعكست على نظام الحكم وتحديداً مفهوم «الملك» الذي بدأ يميل إلى أخذ الطابع السياسي بدلاً من الطابع الديني، وقد بدا هذا التحول واضحاً بعد زوال حضارة سومر وبدء الحضارة الأكدية (Vacin 2001, p. 188). وصاحب تلك التغيرات ميل نحو زيادة نسبة خصخصة الأعمال، وإعطاء الجماعات العرقية التي تتعايش ضمن بلاد سومر استقلالية أكبر، وهذه التغيرات أصبحت أكثر وضوحاً في الحقبة التي تلت عهد سرجون الأكدي (مؤسس الدولة الأكدية في حدود العام 2340 قبل الميلاد) (Steinkeller 1991، 2004). وهذا يعني أن الجماعات العرقية التي تعيش ضمن حضارة سومر، وأكاد لاحقاً، كانت تحكم نفسها بنفسها؛ حيث إن سياسة كل من سومر وأكاد كانت تقتضي أن يتم تعيين رئيس لأي جماعة عرقية من هذه الجماعة. وقد اعتبرت هذه السياسة سلاحاً ذا حدين (Steinkeller 1991)؛ حيث يمكن لجماعة عرقية مَّا أن تتمرد وتعمل لصالحها وتتطلع إلى حكم الجماعات الأخرى، ومن ناحية أخرى يمكن لهذه السياسة التحكم في الجماعات الأخرى عن طريق رئيس منها تحترمه الجماعة ويتفهم خصوصياتهم وفي الوقت نفسه يكون هذا الرئيس موالياً للسلطة المركزية أي الملك. هذه الجماعات العرقية تعمل وفق آلية معينة بحيث يعمل كل فرد أعمالاً خاصة به وفي المقابل فإنه يجب على هذا الفرد أن يعمل بقدر معين لصالح الدولة كلها (Steinkeller 1991، 2004)؛ وبذلك لا تكون الجماعات العرقية منفصلة عن الدولة. ولكي نكون أكثر وضوحاً، فإن لكل جماعة عرقية ثقافة خاصة بها تجمعها ولكن جزءاً من هذه الثقافة يعتبر من العموميات التي تجمع الجماعات العرقية كلها بحيث تعطي طابعاً عامّاً للدولة أو للحضارة ككل. إلا أن الخصوصيات الثقافية لكل جماعة عرقية لا تظهر إلا عندما تنعزل هذه الجماعة بعيداً عن السلطة المركزية. وبحسب هذا المفهوم يمكننا تعليل خصوصيات وعموميات ثقافة الدويلات التي تكونت في حقبة جمدة نصر وما بعدها، كثقافة أم النار وثقافة دلمون، فهذه الثقافات، وإن كانت لها خصوصياتها التي تميزها عن غيرها، إلا أن لها عموميات تشترك فيها مع ثقافة جنوب الرافدين والتي انتشرت أيضاً في مناطق أخرى في الشرق الأوسط. ومن هنا نجد بعض الباحثين يعتبرون هذه الحضارات إمداداً لحضارة الجنوب الرافدين.

هوية الجماعة وهوية الدول

منطقيّاً؛ لا يمكن لأي جماعة أن تؤسس حضارة وهي لا تمتلك في الأساس ثقافة، فالحضارة هي إنعاش لثقافة الجماعة، بخصوصياتها وعمومياتها، والتي تحمل هويتها. سبق أن ذكرنا في الفصول السابقة أن الباحثين في حضارة دلمون يرجحون أن المؤسسين لهذه الحضارة تأثروا بحضارة وادي السند وربما كانوا هم (أي الميلوخيون المهاجرون) المؤسسين لهذه الحضارة. وكان سبب هذا الترجيح وجود خصوصيات في ثقافة دلمون تعكس هوية حضارة وادي السند وكذلك الحضارات المجاورة لها في وسط آسيا (سنتناول ذلك بالتفصيل في فصول لاحقة). لكن عندما نتفحص ثقافة دلمون بصورة دقيقة؛ تظهر هناك ملامح معينة تشترك فيها مع جنوب الرافدين. وهناك عدد من الباحثين يصرحون بكل وضوح بأن دلمون - البحرين تجتمع فيها حضارتان هما سومر ووادي السند وما حولها، من أولئك الكتاب، على سبيل المثال، During-Caspers التي ذكرت وجود هذا المزيج في عدد من دراساتها، على سبيل المثال (During-Caspers, 1971a, 1971b, 1973, 1979, 1994,1996). وترجح During-Caspers أن هناك هجرات حدثت من سومر إلى شرق الجزيرة العربية (During-Caspers, 1971a). بالطبع، لا يوجد دليل كتابي يوثق وجود هذه الهجرات، لكن حتى مع غياب هذا الدليل يبدو منطقيّاً حدوث تلك الهجرات التي أدت إلى انتشار الثقافة في هذه المنطقة (Carter 2012).

دويلات أم محطات تجارية

في حال افترضنا صحة الترجيحات على وجود هجرات لجماعات عرقية من جنوب الرافدين تحمل ثقافة مختلطة (سومرية وسندية)، فإن هذه الجماعات لم تهاجر أو تنتقل انتقالاً عشوائيّاً بل إن هجرتها جاءت لتخدم مصالحها الخاصة وفي الوقت نفسه تخدم مصالح الدولة التي كانت جزءاً منها. فنلاحظ أن هذه الجماعات كونت دويلات صغيرة أو محطات على امتداد الشاطئ الشرقي للخليج العربي، مثلاً على جزيرة أم النار في دولة الإمارات، وفي شرق الجزيرة العربية، وعلى جزيرة تاروت، وعلى جزيرة البحرين. هذه الدويلات أو المحطات هي في الأساس تخدم التجارة البحرية لجنوب الرافدين (Carter 2012, 2003a). ويقترح Carter أن الجماعات التي أسست هذه المحطات، في الغالب، هي الجماعة التي تمركزت في دلمون - البحرين، وهي الجماعة التي سيطرت على التجارة البحرية في الخليج العربي من دون منازع، وذلك في فترة ذروتها (Carter 2003a). لاحظ كيف أن سياسة حضارات الرافدين التي تعطي حرية للجماعات العرقية لكي تنمو وتكون دولاً ساهمت في انتشار عددٍ من الجماعات الذين أصبحوا أنويةً لحضارات أخرى نمت بصورة سلمية. وقد حافظت هذه الجماعات على استقلاليتها وإظهار هويتها الخاصة بها، لكن في الوقت نفسه أبقت على علاقتها مع المنطقة التي نمت فيها الجذور الأولى لها.

الدلمونيون أهل سلم وقد سيطروا تجاريّاً وثقافيّاً على منطقة الخليج العربي في حقبة من الزمن، إلا أن هناك جماعات أخرى عندما أعطيت لها الفرصة لأن تنمو بدأت بالتفكير في غزو الجماعات الأخرى والسيطرة عليها، وطمس هوياتها وفرض هويتها بالقوة وتلك هي الدول التي ظهرت لاحقاً في الشرق الأوسط القديم وسيطرت بالقوة على الحضارات القديمة... يتبع.

العدد 3899 - الجمعة 10 مايو 2013م الموافق 29 جمادى الآخرة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً