العدد 3912 - الخميس 23 مايو 2013م الموافق 13 رجب 1434هـ

تشرنوبل النووية الحدث المأساوي... ذكريات شاهد عيان (4)

شبر إبراهيم الوداعي

باحث بحريني

في خضم الحدث المأساوي اتخذت في مدينة كييف اجراءات احترازية عدة للتقليل من التأثيرات المحتملة للاشعاعات، فكانت تسير في الشوارع وبصورة متواصلة وعلى مدار أيام عديدة السيارات التي تحمل صهاريج الماء لغسل الاسفلت من الغبار الذي كان يتضمن جسيمات مشعة، وعند الدخول إلى أي مكان سواءً البيت أو المؤسسة أو المدرسة أو مراكز التسوق أو الأسواق الشعبية، كانت توجد قطعة قماش مبللة وكان الناس ينفذون التعليمات التي وزعت عليهم في بداية الكارثة والتي دعت إلى إغلاق النوافذ بشكل محكم، ونفض الملابس قبل دخول المنزل وعدم التعرض لأشعة الشمس، واللجوء إلى الأماكن المغلقة عند نزول الأمطار، وتناول كأس من الماء مخلوط بقليل من اليود أو الاسبيرت الطبي النقي للتقليل من مستوى الإشعاع في الدم وغيرها من الإجراءات الاحترازية.

لقد تحوّلت هذه المدينة العريقة بكنائسها ذات القباب الذهبية خلال أيام بسيطة، إلى مظهر من العصر النووي الجديد، فكلمات الرقابة الإشعاعية وإزالة الإشعاع دخلت في لغة أهالي كييف بصورة ثابتة، وغدت صورة الشخص في البدلة الوقائية الخاصة والكمامة على وجهه وعداد «جيجر» في يده من الأمور العادية.

ويطالعك ازدحام السيارات أمام مداخل كييف، فلقد فرضت الرقابة الإشعاعية على السيارات في جميع نقاط التفتيش، واختفى من الأسواق الكولخوزية (التعاونيات الزراعية) الحليب ومشتقاته وفُرض الحظر على من يبيع الخضار، وخضع للرقابة الإشعاعية الفجل والفريز والبطاطا الطازجة والبصل، وكنا عند زيارتنا للأسواق الشعبية للخضرة، نشاهد مفتشي الرقابة يفحصون الخضراوات والفواكه، للكشف عن إمكانية تلوثها بالمواد المشعة، خصوصاً أن مجموعة من عديمي الضمير قامت بالتسلل إلى الحقول التي تركها أهلها في المناطق الموبوءة وجني محاصيلها من البطاطس والخضروات والفواكه وبيعها في الأسواق الشعبية.

وكانت الفلاحات البسيطات يسعين لإثبات حسن نواياهن وصدقهن حيث يستوقفنك ويحلفن بالله العظيم بأن ما يبعنه خالٍ من الإشعاعات، وكن يبعن ثمار التوت الافرنجي بأسعار رخيصة، ولكن قلّ من يشتريها. وكان غالبية الطلبة الأجانب عندما يريدون شراء الخضراوات والفواكه يتأكدون من مصدرها، وعادةً ما يشترون البضاعة القادمة من المناطق البعيدة. وقد حرصت مع مجموعةٍ من الأصدقاء على السفر إلى المناطق التي تبعد عن مدينة كييف لشراء ما نحتاجه من مواد غذائية، وغالباً ما كنت أتلقّى التموين من أسرة صديقي «ايجور نيتوفكن»، الذين يعتبرونني بمثابة ابنهم، وكان الخوف والحذر من التعرض للتلوث الإشعاعي هو سيد القرار في تلك المرحلة العصيبة من تاريخ وجودنا في تلك البلاد الجميلة بطبيعتها وبطيبة وكرم شعبها المضياف.

وعلى الرغم من حجم المخاطر والمأساة وحساسية الموقف، كان الناس غير مبالين بما هو حاصلٌ وبعواقب المستقبل، وقد شاهدنا المجاميع من البشر تعيش حالةً من المتعة والاسترخاء في مواقع الاصطياف والمنتجعات وفي الغابات وشواطئ الأنهر، وبقيت شوارع كييف مكتظةً بالناس كما لو لم يحدث شيء. وهبّ الناس لمكافحة الكارثة وعواقبها، وكانت المصانع والنقليات والمخازن والمعاهد والمؤسسات الرسمية تعمل بصورة طبيعية كما كانت تعمل الاتصالات وتصدر الصحف.

وفي زيارةٍ قمت بها في تلك الأيام العصيبة إلى نهر «الدنيبر»، رأيت الناس زرافاتٍ يتوجهون إلى شواطئه للراحة من تعب النهار، ويستلقون تحت الشمس وكأن شيئاً لم يحدث، بيد أن شوارع كييف بدت فارغةً من الأطفال وبسماتهم البديعة والبريئة، ففي الأيام الأولى من مايو/أيار هرعت المدينة لإخراج أطفالها بكل الوسائل المنظمة وغير المنظمة بوساطة القطارات والطائرات والباصات، وامتدت إلى الغرب والجنوب والشرق قوافل كبيرة من الباصات والسيارات الصغيرة حاملة الأمتعة على سقوفها، وكان في تلك السيارات الآباء والأمهات ينقلون الأبناء مع الجدات، وكذلك النساء الحوامل إلى الأقارب والأصدقاء، وكان الكثيرون منهم لا يعرفون إلى أين يتجهون، فالأمر الرئيسي بالنسبة لهم كان الابتعاد عن مكان الإشعاع، وفي ظلّ تلك الظروف سارع صديقي تميم حميد مرعي من سورية إلى إرسال زوجته وهي في شهرها الأخير إلى مدينة موسكو، ونظراً لخوف أسرة صديقي «ايجور نيتوفكن» على مصيري أصرّوا على أن أغادر كييف وأعيش عندهم بعيداً عن المخاطر، ما حملني على السفر إلى مدينة «كورستن شفشنكوا» التابعة لمحافظة «جركاسا» في وسط أوكرانيا، ولاحقاً إلى بيت عمة صديقي في مدينة «دونيسك» التي تبعد عن مدينة «كييف» كثيراً.

وتسببت تلك الهجرة المفاجئة وغير المنظمة في حدوث الكثير من الإرباكات والفوضى أمام شبابيك شراء تذاكر السفر، وكنا نشاهد المجاميع الهائلة من البشر محتشدةً في كتل وطوابير طويلة أمام شبابيك بطاقات السفر بمحطات السكك الحديدية والطائرات. وكان من الصعب حتى على الذين يحصلون على بطاقات، الوصول إلى محطة القطارات ما اضطر المليشيا للتدخل. وفي غرفة القطارات المخصّصة لأربعة أشخاص كان يسافر 8 و10 أشخاص. وكان المضاربون والمتلاعبون يطلبون الأثمان العالية لقاء شراء التذاكر.

إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"

العدد 3912 - الخميس 23 مايو 2013م الموافق 13 رجب 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً