العدد 1567 - الأربعاء 20 ديسمبر 2006م الموافق 29 ذي القعدة 1427هـ

«الدير»... من دير المسيحية إلى الإسلام

خلف الأسطول الكبير والطائرات العملاقة... تنام قرية آمنة

في الزحام، في خضم الثورة العمرانية التي أسهمت في تغيير طبائعنا وأشكالنا بين ما كنا وأصبحنا، وبين ترهات الطائرات، وصخب الأسطول الجوي، قريباً جداً من شاطئ البحر قرية تتنفس الإنسان. تلتف حولها عناقيد النخيل، داكنة الخضرة، نائية هي بجغرافيتها، عميقة بعبقها التاريخي. تطوف بين دهاليزها تجد أصالة الماضي محفورة في شوارعها وطرقاتها. «مسجد الراهب» الذي اكتسبت منه هذه القرية تسميتها هو من يشهد على عراقتها، تراثها، وماضيها في صدر الإسلام. كان المسجد ديراً للمسيح - المكان الذي يتعبد فيه المسيحيون قبل الإسلام - ومع بزوغ فجر الإسلام تحول المعبد مسجداً، يقصده المسلمون، ويتلاقى فيه أبناؤها بغرض تأدية صلواتهم. مازال المسجد يحمل اسم «الراهب»؛ ولأن الأسماء تكبر كما يكبر الإنسان، بات يعرف السكان الذين يقطنون حول هذا المسجد بسكنة الراهب، وبات المكان نفسه «حي – فريق - الراهب».

تقع القرية على الساحل الشمالي لجزيرة المحرق، وتبعد قرابة 3 كيلومترات من الشمال الشرقي من منها، ويرجع الباحثون في أصول نشوئها إلى حب أهالي المنطقة إلى البحر وتعلقهم الشديد به، الأمر الذي دعا بهم إلى الاستقرار عند منابع رزقهم عند «الحظور» القريبة من البحر، وذلك خوفاً عليها من السرقة واطمئنانهم على لقمة عيشهم، وبالتالي تراكم الناس حول الحظور شيئاً فشياً، حتى اتسعت رقعتهم، وبات مقرهم الذي اخذ مساحة تمتد من منطقة بين مسجد الغربي إلى مسجد الخيف، الذي يعتبر أحد المعالم التاريخية التي تزخر بها هذه القرية أيضاً، والذي جدد حديثاً وتم افتتاحه في هذا العام في شهر يونيو /حزيران.

سماهيح أم القرى

ويقول أحد الباحثين في سرده عن تاريخ نشوء القرية «إنه لا يمكن الحديث عن الدير من دون الحديث عن السماهيج؛ إذ كانت المنطقة كلها تدعى «سماهيج» بل إن الدير تعد من قراها هي وريا والجنمة والحلة و... الخ. كما يقول: «كان أهل سماهيج يدينون بالنصرانية قبل الإسلام التي تسربت إليهم من شبه الجزيرة العربية، التي انتشرت آنذاك وكان أشهر مراجعها (صنعاء ونجران وقطر وعدن) وذلك عبر القوافل التجارية المبشرين بها»، كما أن للمناذرة أثراً في انتشارها بعد أن دانوا بها وامتدت نفوذهم إلى البحرين، وكان المذهب النسطوري هو المذهب السائد في البحرين، والذي أخذوه من الحيرة عن طريق رجال دينهم الذين جاءوا المنطقة للتبشير به. (والنسطورية نسبة إلى نسطوريوس بطريرك القسطنطينية الذي قال بطبيعة واحدة للمسيح وأنكر على العذراء لقب الرب فطرده مجمع افسس).

ويقول أحد الرحالة الإنجليز عن قرية الدير عندما زار البحرين العام 1905 أي قبل (سنة الطبعة) بـ 20 عاماً «(أهلها يشتغلون بصيد اللؤلؤ، وبها 25 سفينة تستخدم لصيد اللؤلؤ كما كانت بها 1700 نخلة و300 منزل مبنية من الطين والجص».

انتفاضة الخمسينات في ذاكرة الديري

ذاكرة الديري محفورة بحوادث الأمس، على رغم تحرك عجلة الزمن إلى هذا اليوم المشهود له في العام 2006، لأن مرحلة الأمس مليئة بتجارب عسيرة، بعضها مرتبط بتجربة حياتهم إبان الانتفاضة التي وقعت في الخمسينات وأودت بهم إلى عصر الانهيار والتقشف، الذين عانوا منها، وتكبدوا من جرائها خسائر معنوية، أهمها ما يتعلق بشعورهم بالحرمان وهو الأمر الذي دفع بعضهم إلى خوض مضمار العمل وهو في سن صغيرة، بينما الآخر دفعته الحياة إلى انتهاج طور آخر في التعايش مع ضروريات الحقبة ذاتها، بل مغايرة عن نظرائه الآخرين، إذ تجد الآخر التف حول طموحاته الدراسية، وتوجه إلى استكمال مشواره الدراسي، وتطوير مهاراته وقدراته - فلعل من إتقانه الصنعه قد تدر عليه ربحاً ورزقاً تعفيه من حياة الحرمان - آنذاك انحسر الاهتمام في البداية على تحسين اللغة الانجليزية، بحكم ما كان للمستعمر من سلطة تفرض علية أموراً يجب أن يأخذها في عين الحسبان، إذا أراد لنفسه التطور والتقدم على حساب نظراء الذين فاتهم قطار التنمية.

فانبرى من رحم تلك القرية، أحد روادها في العمل التجاري، وهو الحاج المرحوم حسن عباس المعروف بتجارته، وأعماله التطوعية وخيراته التي تدر على أهالي القرية الفقراء سعة العيش الكريم، والتي مازالت أطلال خيراته ونعمة شاهدة على نعيم وترف هذه الأمة (الديرية) والى يومنا هذا، كما يرجع أهل القرية إلى الحاج عباس الفضل الكثير على كرمة ومساعدته لهم على تنمية أحوالهم ومستواهم من حال كانت لغة الفقر هي السائدة بينما الحال أصبح الآن رغيداً، كما عرف في القرية أيضا الحاج عبدالله منصور على أنه أول رجل ينتمي إلى تراب هذه القرية ينال عضوية مجلس الشوري في التسعينات.

كما هناك أشخاص معينون في القرية لهم الفضل على أهاليها أجمعين في تنمية منطقتهم وتطويرها وجعلها من القرى المسايرة لمواكبة نهضبة العصر آنذاك، فكان أول من اقتنى سيارة خاصة بالدير هو المرحوم الحاج أحمد بن الحاج عباس، وأول من اقتنى سيارة أجرة بالدير هو الحاج حميد بن عبدالنبي، وأول من أدخل جهاز الراديو هو المرحوم الحاج أحمد بن علي النهام الملقب (أبوهنيدي)، وأول من اقتنى سفينة صيد تسير بمحرك الديزل هو المرحوم الحاج جعفر بن محمد بن عيسى. وبيت المرحوم الحاج حماد وذلك في أواخر الخمسينات.

في الجانب الآخر، ثمة أناس لاكتهم حياة الغربة والمنفى، فيسميهم البعض «المناضلين»، وتعج القرية بالكثير من هذه الأسماء، منهم اليوم من هو نائب برلماني، أو عضو للشورى، ومنهم من بقي خارج البلاد، حيث سرقته أرض غير الأرض.

وقبل أن يشرع جلالة الملك مشروعه الإصلاحي الذي دشنه في العام 2001، واكبت قرية الدير سلسلة الحوادث التي رافقت عملية الانتفاضة إبان التسعينات والتي راح ضحيتها عدد لا يستهان به من الضحايا سواء من الشهداء الأبرياء أو المسجونين الذي باتوا وراء قضبان السجون، فيما الآخر عاش لوعة الحرمان من ملاقاة أصدقائه، وأبرز رواد هذه الانتفاضة الشهيدحسين العشيرى.

غير أن عجلة الإصلاح، وما خطته بين دفتي الدستور أسهمت في انبثاق حقبة جديدة، مشهود لها في عمر البحرين أنها المنقذ لسنوات من الوجع، إذ لاح في الأفق تغيير جذري قلب وعكس المعادلة إلى معادلة الإصلاح والعدالة، وهذا جل ما يتلمسه الشعب البحريني عموماً، من خطوات جلالة الملك في تسيير دفة الإصلاح على منابع وفروع عدة، طالت المؤسسات والقائمين عليها.

«سنة الطبعة» كارثة تسونامي

أعمق التجارب القاسية المحفورة في ذكريات «الديري» هي حقبة تاريخية مفجعة عند معاصريها، ومازالت آثارها باقية في الذاكرة. (سنة الطبعة) التي تعرف وفق هجائية الديراويون بأنها «السنة التي حدثت فيها آنذاك مجاعة قاتلة أفسدت الأخضر واليابس وانتشرت فيها الأمراض» وتسببت هذه السنة بحسب ما تناقلته كتب التاريخ عن الحاج عيسى بن مطر الذي وافته المنية خلال هذا العام وولد في العام 1900، «انه في العام 1925 هبت رياح عاصفة في يوم الجمعة ليلة 13 من ربيع الأول الموافق الميلادي 28 سبتمبر/ أيلول 1925 استمرت قرابة 30 – 45 دقيقة وأدت هذه الريح العاصفة إلى حدوث فيضان كبير في البحر وتسبب في غرق الكثير من السفن في الدير وفقدان أرواح بشرية كثيرة، وجاء توقيت العاصفة في طالع الزبرة وهو أول طالع من طوالع الخريف».

وكانت تلك العاصفة ضربة قاصمة لمهنة الغوص فقد خلفت خسائر فادحة في الأموال والممتلكات والأنفس، فكثير من التجار وضعوا أموالهم في تمويل الكثير من السفن على أمل أن يعوضوها بعد موسم الغوص ولكن جاءت الطامة وكما يقال «طمت اشتيا على أمانيها» لأن الكثير من السفن كانت تغوص في هير اشتيا.

ويضيف الحاج عيسى حسرة عن حادث الطبعة، معدداً عدد السفن التي نجت وغرقت ويقول «إن 15 سفينة من النوع الكبير غرقت وبعض هذه السفن تخص نواخذة في الدير منها سفينة الحاج محمد بن عيسى الذي نجا ومن معه من الغرق، سفينة الحاج علي أبوشقر الذي هو أيضا نجا ومن معه من الغرق، وأخيراً سفينة عيسى بن الحاج سلمان الذي غرق هو ومن معه من شباب الدير مثل داوود وولد عبدالنبي وولد علي بن سلمان (اخو حجي سلمان)، سفينة احمد أبوأيوب (بن خلف) وقد نجا ومن معه من الغرق».

ويواصل الطواش الحاج عيسى بن مطر الحديث عن فترة الطبعة - الذي امتهن مهنة الطواشة لمدة أربعة عقود تركها وانتقل إلى بيع المواد الاستهلاكية في دكان يبيع الشكر والدهن والرز والصابون – مشيداً بموقف أحد النواخذة الأفاضل ويقول «إن الفضل يرجع إلى أحد النواخذه ويعرف بنوخذه عبدالحميد عبدالعزيز آل محمود من سكنة الحد الذي كان يبحر آنذاك ولم يطبع محمله، فأمر بحارته بنشل جميع من غرق وطبعت محاملهم من أهالي الدير، وعلى رغم إصرار أعوانه وبحارته على عدم حملهم لكن النوخذه أصر عليهم بإنقاذ جميع بحارة أهل الدير».

للدير خصوصية «وشو... ده»

للبحرين عشرات من القرى، فلكل قرية تاريخها وطباعها ولهجتها التي تحتفط بها لنفسها، على رغم أن الذي يجمعنا نحن كمواطنين، وحدة الأرض، والدين واللغة العربية، لكن الاختلاف شاهد على لهجتنا التي تميزنا عن نظرائننا من أهالي القرية الآخرين، ولعل الخصال اللفظية التي تخص الديريين فقط أبرز دليل على ذلك، ومازال البعض يرددها على مسامعنا ولم تتأثر ألسنتهم بطور «التغريب الثقافي» و»العولمة المحرقاوية» هي كلمة «ده» وهي عبارة يطلقها الديراوي وقتما يشعر بحال من الذهول والعجب من فعل أو قول ما إضافة إلى كلمة «وشوده» وهي عبارة مرادفة لكلمة ما هذا؟.

وفي نهاية المشوار التاريخي للقرية، يبقى حديث اليوم هو سيد الأحاديث كلها، لأن ما وقع بالأمس انتهى فعلياً بانتهاء أجياله وأوانه، لكن حدث اليوم يبقى هو السائد والمؤثر والذي هو مرهون بصناع قرار اجيالة، الذين تقاعسوا عن مواصلة رتم آبائهم في تفانيهم وصبرهم في خوض مضمار الحياة، وباتوا يتكلون على أهداب طموحهم، وهذا جل ما نشكو منه نحن من صعوبات تعرقل لنا مسيرة اندماجنا مع الآخر، والتغيير الحاصل في كوكبنا، الزاخر بمليء من التغييرات المفروضة قسراً، بل وأصبحت قدراً مكتوباً على جبين كل مولود يولد في عهد الألفية السادسة?

العدد 1567 - الأربعاء 20 ديسمبر 2006م الموافق 29 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً