العدد 1568 - الخميس 21 ديسمبر 2006م الموافق 30 ذي القعدة 1427هـ

كلٌ على آلةٍ حدباء محمول

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في ليلةٍ شاتيةٍ شديدةِ البرد، كان عائداً إلى منزله بعد الانتهاء من دفن الشيخ الجمري الاثنين الماضي، وقد شارفت الساعة على منتصف الليل. قبل أن يهمّ بالدخول، وصلته رسالةٌ هاتفيةٌ تنبئ بوفاة شاب من الجيران. تبيّن صباحاً أن فيروساً أصابه بالحمّى، فدخل المستشفى، ولم يطل به المقام، فسرعان ما أغمض عينيه الإغماضة الأخيرة وآذن بالرحيل.

عصر أمس الخميس، كانت المقبرة مزدحمةً بمودّعيه في اليوم الثالث من الرحيل. يحلّق الجميع حول القبر، متوزعين بين القبور المتجاورة، بعضهم جلس على طوبة وبعضهم افترش التراب، وجلس أحد الخطباء يسرد أبياتاً من شعر الرثاء، تدور حول مصائب أهل البيت النبوي الشريف، وما جرى لهم من تشريدٍ وفراقٍ ومظالمَ وقتل، قبل أربعة عشر قرناًً:

يـا رســول الله لـو عـايـنتـهم

وهــم مــا بـيـن قتلـى وسـبـا

لرأت عينـاك منـهم منـظـراً

لـلحـشـى شـجواً ولـلعيـن قذى

طريقةٌ يذيب بها الناس في بلادنا همومهم ويخففون أحزانهم ووقع المصائب على قلوبهم... فالجرح يُسكِنُهُ الذي هو آلم.

ومع ذلك، عند النوازل والمصائب، تبقى من كلّ مصيبةٍ ذكرى نختزنها في أعمق أعماق ذاكراتنا، ونصرّ على أن تبقى محفوظةً في حنايانا، متوهجةً بين ضلوعنا، لأنها آخر ما ستبقى من الأحباب الذين غادرونا.

صورة أخيك منصور وهو منحنٍ على قبر أبيه ليخزّن اللقطة الأخيرة في صدره، تذكرك بأبيك وهو يحتضر في آخر الدقائق له في الدنيا في إحدى ليالي رمضان. ربّما تظل تتذكّره كل يومٍ عند مرورك على المغتسل، فهذا هو مكان آخر غُسلٍ له في آخر أيامه في الدنيا. ولا يمكن أن تنسى منظر وجهه الهادئ وقد حفّت به مهابة الموت في القبر، في آخر لقطةٍ تتاح لك، يكون بعدها الفراق الأخير، إذ سيفصل التراب بعدها بين عالم من يمشون فوق الأرض... ومن ينامون فتطول رقدتهم تحت الثرى.

أمام رهبة الموت وتجهّمه، يعيد الإنسان شيئاً من اتزانه في الحياة، يطوف بآيات القرآن الكريم ليستشعر السكينة. ويتذكر أبا العلاء في قصيدته الخالدة كلما دخل المقبرة ليودّع أو يزور أحد الراحلين:

خفف الوطأ مـا أظن أديم الأرض إلاّ مـن هذه الأجســـاد

وقبيح بنا وان قــدم العهـــد هوان الآبـــاء والأجداد

سر إن اسطعت في الهواء رويداً... لا اختيالاً على رفات العبــاد

فهو يحذر سامعيه من الوطأ على بقايا أجساد السابقين، وطلب منا أن نخفّف الوطأ أو نتوّقف عن السير أو نسير في الهواء.

إنه الموت... ما يعزينا أن أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، وأن ...

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول

كما قال كعب بن زهير أمام الرسول (ص)... صدقت يا ابن زهير بن أبي سلمى?

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 1568 - الخميس 21 ديسمبر 2006م الموافق 30 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً