العدد 1572 - الإثنين 25 ديسمبر 2006م الموافق 04 ذي الحجة 1427هـ

انقسامات داخلية ومواقف سياسية متداخلة

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

تفترض المطابقة المزعومة بين الطائفة والموقف السياسي أن كل الشيعة معارضة، وأن كل السنة موالاة، وأن لهذه القسمة المضبوطة طائفياً وسياسياً، امتداداً تاريخياً يرجع إلى العام 1783. والحق أن هذا زعم أيديولوجي مغرض يسعى من أجل إضفاء المشروعية على قسمة ظالمة في توزيع المنافع والخيرات العامة في الدولة بين الطوائف. وبحسب هذا المنطق الأعوج فإن قسمة الزعم الأيديولوجي في حال كانت صحيحة فإنها تبرر وتضفي المشروعية على قسمة توزيع المنافع والخيرات العامة في الواقع. أقول إن هذا زعم أيديولوجي لأنه يقوم على وعي زائف ومغلوط، وينبني على قلب مقصود لحقائق التاريخ والواقع. ولتكن بدايتنا في تقويض هذا الزعم من التاريخ الذي يثبت أن الانقسامات الداخلية داخل كل طائفة ما كانت تسمح بتشكّل مطابقة مضبوطة على أساس مواقف سياسية موالية أو معارضة، فقد كانت المواقف السياسية متداخلة، وعلى هذا كان الشيعة والسنة معارضة وموالاة في الوقت ذاته، بل إن من بين السنة من كان خصماً لدوداً لنظام الحكم في البحرين منذ تأسيسه، وظل طوال فترة حياته يؤلب القوى الإقليمية ضده ويقوم بجولات إلى سلطان مسقط وأمير نجد بهدف التحريض على الانتقام منه. ولولا الحساسية البالغة في هذا الموضوع لذكرنا اسم هذا الخصم القبلي السني العنيد لنظام الحكم (ولمن أراد المزيد يمكنه الرجوع إلى كتاب ناصر الخيري: قلائد النحرين في تاريخ البحرين، ص244).

نقلنا في مقال الأسبوع السابق سرداً تاريخياً عن الخيري (ت 1925) وعن محمد علي التاجر؛ لنؤكد أن الانقسام الحاد داخل الطائفة الشيعية بين أهل الشمال برئاسة السيد مدن بن ماجد الجدحفصي، وأهل الجنوب برئاسة الشيخ أحمد بن رقية (أو ارقيا) - والاثنان من الشيعة - ما كان ليسمح بتشكّل مطابقة بين الشيعة وبين أي موقف سياسي منسجم وموحّد. فرواية الخيري والتاجر تسمح بالحديث عن اصطفافات سياسية، ولكنها اصطفافات سياسية ذات جذور اجتماعية ومناطقية وليست طائفية أو طبقية أو أيديولوجية. وهذا الأمر يعني أن أسرة آل خليفة الحاكمة لم تكن تنظر إلى هذا الاصطفاف السياسي على أنه اصطفاف طائفي، وإلاّ لو كان طائفياً لتحالف أهل البلاد القديم (أو توبلي) مع أهل جد حفص وكوّنوا موقفهم السياسي الموحد على أساس طائفي.

ثم إن الخيري والتاجر يذكران أن الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة حين دخل البحرين وظل يتردد بينها وبين الزبارة، عيّن أميرين في المحرق والمنامة، وأغلب الظن أن هذين كانا شيعيين؛ لأن القبائل السنية لم تنتقل من الزبارة إلى البحرين بعدُ. والخيري والتاجر يذكران كذلك أن القبائل السنية الساكنة في الزبارة أحبت الانتقال إلى البحرين بعد مدة من دخول الشيخ أحمد إلى البحرين، فاستأذنوا الشيخ في هذا الشأن، «فسمح لهم بذلك فانتقل كثيرٌ منهم إليها، وسكن غالبيتهم المحرق وما يليها، وسكن البعض الآخر الأطراف ـ الأسياف، وغالبية هؤلاء ممن يمارسون الأعمال البحرية» (قلائد النحرين، ص227، وعقد اللآل، ص105). ويذكر النبهاني أن انتقال القبائل السنية من الزبارة إلى البحرين كان في العام 1795/ 1212هـ، (التحفة النبهانية، ص89)، أي بعد نحو 12 عاماً من هزيمة نصر آل مذكور وجنده. ويذكر الخيري أن الشيخ أحمد آل خليفة «استوزر سلمان (...) آل بن ارقيا، وجعله مديراً لكافة الأملاك والنخايل (النخيل) الأميرية» (ص228). ما يعني أن المطابقة المزعومة لم تكن موجودة، وإلاّ كيف تكون موجودةً في الوقت الذي يستوزر فيه الشيخ أحمد، أول حاكم من آل خليفة على البحرين، رجلاً شيعياً ويجعله مديراً لكافة أملاكه؟ وتؤكد سيرة أبناء الشيخ أحمد، الشيخ سلمان والشيخ عبد الله، أن هذه المطابقة بين الشيعة والمعارضة، والسنة والموالاة لم يكن لها وجود أصلاً، فالخيري يذكر أن الشيخ سلمان تربّع على العرش بعد أبيه، وكان «على جانب عظيم من الرقة وسلامة القلب ومكارم الأخلاق، متمسّكاً بخصال أبيه الحميدة فاستقامت له الأمور وانقادت له الرعية» (ص229). ويؤكد التاجر هذا المعنى حين يذكر أن الشيخ سلمان كان «حازماً عادلاً فأطاعته الرعية ودانت له القبائل». ولما توفي الشيخ سلمان تولى الحكم من بعده أخوه الشيخ عبد الله، ويصفه التاجر بأنه «كان حازماً منصفاً فأحبته الرعية». والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: من هذه الرعية التي أطاعت الشيخ سلمان وانقادت له، وأحبت أخاه الشيخ عبد الله إن لم يكونوا هم شيعة البحرين أنفسهم؟ ثم ينبغي التذكير بأن سلمان بن رقية (وهو شيعي) كان وزير الشيخ سلمان، فيما كان السيد يوسف بن سيد سلمان (شيعي) وزير الشيخ عبد الله، وكان السيد عبد الجليل بن ياسين الطباطبائي (شيعي ولد بالبصرة في العام 1776/1190هـ، وارتحل منها إلى البحرين ثم نزح إلى الكويت في العام 1842/1258هـ، وتوفي في العام 1853) كاتب شيوخ آل خليفة وشاعرهم وممثلهم لدى الإنجليز في معاهدة الأمن والسلام العامة الموقعة في العام 1820. وكان هؤلاء الثلاثة من بين المرافقين الرسميين للشيخ سلمان والشيخ عبد الله في زيارتهما المشهورة إلى سعود بن عبد العزيز آل سعود في الدرعية في العام 1810/ 1225هـ، (انظر: قلائد النحرين، ص237). وهذا المعنى تؤكده الشيخة مي بنت محمد آل خليفة حين تكتب: «إن معظم الوزراء والكتاب لدى شيوخ آل خليفة آنذاك كانوا من الشيعة» (محمد بن خليفة: الأسطورة والتاريخ الموازي، ص208). فكيف يمكن تصور أن تتشكل مطابقة آنذاك بين الشيعة ومعارضة الحكم في حين أن معظم وزراء آل خليفة وكتابهم وشعرائهم ووكلائهم في توقيع المعاهدات والاتفاقات «الدولية» من الشيعة؟ وتذكر مي الخليفة أن التسامح المذهبي كان «منهجاً لحكام البحرين الذين لم يعرفوا بتعصبهم الطائفي» (الأسطورة والتاريخ الموازي، ص124)، وهذه حقيقة يذكرها النبهاني، ويستدل عليها بمنظومة شعرية ألفها الشيخ خليفة بن محمد آل خليفة شيخ الزبارة، وأخو الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة حاكم البحرين الأول، في الرد على الوهابية وتعصّبهم، يقول فيها:

ويا بدعةً ما قد سمعنا بمثلها... تكفّر كل الناس حتى الموحِّدا (التحفة النبهانية، ص84). ويبدو أن شيعة القطيف تذكّروا هذا التسامح إبان وقعة سيهات أو حرب القطيف في العام 1833، حين تجدّد الخلاف بين حاكم البحرين آنذاك الشيخ عبد الله بن أحمد آل خليفة وأمير نجد تركي بن عبد الله آل سعود. والتقى الجمعان ودام حصار القطيف أربعين يوماً، وفكّر أهلها بسوء العاقبة وأنهم مهددون بشر عظيم من قبل الجيشين المتصارعين على أرضهم. ومن جهة أخرى يذكر النبهاني والخيري والتاجر أن «تقليدهم (أي أهل القطيف) مذهب الشيعة قد عرّضهم لاضطهاد أمراء نجد الوهابيين وظلمهم إياهم. وتأكدوا عدل آل خليفة وحلمهم فراسلوا الشيخ عبد الله وعرضوا عليه تسليم البلد على أن يؤمنهم على أنفسهم وأموالهم، فقبل ذلك، ووفى لهم به واستولى على البلدة» (التحفة النبهانية، ص105، وعقد اللآل في تاريخ أوال، ص120، وقلائد النحرين في تاريخ البحرين، ص279). وإذا تقدّمنا خطوة أخرى، فسيكون علينا التذكير بما جرى في العام 1286هـ، فحين اضطرب الوضع السياسي في البلاد آنذاك، جاء الكولونيل بيلي، مأمور دولة الإنجليز، و»ألّف مجلساً جمع فيه أكابر البلدة وأعيانها، وخيّرهم في طلب الحاكم الذي يرتضونه (...) فوقع اختيار الأهالي جميعاً على حضرة الشيخ عيسى بن علي» (قلائد النحرين، ص367، حاضر البحرين، ص30)، وأعلن رسمياً تولي الشيخ عيسى بن علي على حكومة البحرين، واستلم زمام الأمور في العام 1869/ 1286هـ. ومن المؤكد أن «أهالي البحرين» الذين خيّروا فيمن يريدونه حاكماً على البلاد آنذاك كانوا من السنة والشيعة. وهذا الموقف هو السابقة التاريخية التي أعاد أهل البحرين، وأيضاً سنة وشيعة، التذكير بها حين شكّلت الأمم المتحدة لجنة مستقلة لاستطلاع رأي أهل البحرين في مستقبل بلادهم السياسي بعد خروج الإنجليز من الخليج. وبالفعل جاء ممثل الأمم المتحدة، والتقى المسئولين والمؤسسات الأهلية والأفراد، وعاد ليقدّم تقريره إلى الأمين العام الذي رفعه إلى الأمم المتحدة ووافق عليه مجلس الأمن في 11 مايو 1970، وجاء فيه تأكيد على أن أغلبية شعب البحرين يفضّلون أن يعترف بهم كشعبٍ مستقلٍ تحت حكم آل خليفة. والخلاصة من كل هذه الشواهد التاريخية، أنه لم يكن هناك مطابقة تاريخية بين الطائفة والموقف السياسي في البحرين، والسبب أن الشيعة كانوا منقسمين بين أهل الشمال المعارضين وأهل الجنوب الموالين. ولقد فوّت هذا الانقسام التاريخي نشوء هكذا مطابقة منذ اللحظة الأولى. والأمر الثاني أن شواهد التاريخ تثبت أن التعصب الطائفي لم يكن حاكماً في رسم العلاقة بين أهل البحرين وشيوخ آل خليفة. وبانعدام هذا التعصب تنتفي أي إمكانية لنشوء مطابقة تاريخية كلية بين الطائفة والموقف السياسي. أما فيما يتعلق بالمطابقة بين السنّة والموالاة، فإن التاريخ ذاته ينقضها، لأنه يمتلئ بحديث كثير عن انشقاقات وصراعات داخل القبائل السنية المتحالفة والتي لم تهدأ حتى استقر الحكم في الشيخ عيسى بن علي آل خليفة في العام 1869، أي بعد نحو قرن من مجيء الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة إلى البحرين في العام 1783. ومعنى هذا أن المطابقة بين الشيعة والمعارضة، والسنة والموالاة، لم تكن قائمة تاريخياً، وهذا يتطلب أن نقوم بعملية أخرى لتقليب مكونات الذاكرة المحلية لنتبيّن حقيقة هذه المطابقة ومحدداتها التاريخية والسياسية. وهذا هو موضوع مقال الأسبوع المقبل إن شاء الله?

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1572 - الإثنين 25 ديسمبر 2006م الموافق 04 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً