العدد 424 - الإثنين 03 نوفمبر 2003م الموافق 08 رمضان 1424هـ

سمات الخطاب الرمضاني

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

من المفارقة المؤلمة أن يصدر في وقت دخول شهر رمضان الكريم تقرير التنمية العربية الثاني المكرس لدراسة مجتمع المعرفة في الدول العربية، أو قل نقص المعرفة الخطير، وهو تقرير يعلن بكل ما فيه من قوة الكلمة أن وضع المعرفة في بلادنا العربية وضع حرج يحتاج إلى أن نقف أمامه بكل جدية ونبحث في معوقاته، وفي وقت نشر التقرير ذاك تندلق علينا في رمضان عشرات من المسلسلات والبرامج العربية التي يشاهدها كثرة من الجمهور العربي فتزيد، بما تقدمه من تسطيح، عمقاً أكثر غوراً لما يشتكي منه التقرير مر الشكوى، وهو عزل العرب عن العالم المحيط بهم، وزيادة تجهيلهم بما يبث لهم في وجبة تلفزيونية دسمة في الشكل، فقيرة في المحتوى، تغلق ما بقي من حس موضوعي بالزمن.

تقرير التنمية العربية الثاني الذي صدر منذ أسابيع عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي يلوم (الإعلام العربي) بالكثير، وعلى رأس هذا الكثير، عدم قدرته على نشر المعرفة الحديثة في الأوساط الاجتماعية العربية، إلا أن هذا اللوم لم يلحظ كيف يقوم الإعلام العربي، وخصوصاً في شهر رمضان، بتكريس اللامعرفة، وتأصيل التجهيل مع سبق الإصرار والترصد.

يساعد في انتشار ذلك وتعميم سوءاته هذه المحطات الفضائية العربية التي أصبحت في رمضان وكأنها طبعة مكررة من الصورة نفسها، توزع التجهيل، وتشيع الممارسات الاجتماعية الخاطئة وتتوسل إقبال الجمهور بتقديم الساذج من الأفكار، وتستدر السرور بالفاقع من البرامج.

المؤسف أن مثل هذا الزاد الرديء في معظمه، يضطر الجمهور العربي أن يقبله والذي لا يجد مجالاً آخر للتلقي والترفيه غيره، ويسري لدى البعض وكأنه المقبول والطبيعي، بل والواجب.

من الأشكال المكررة التي تتسول الضحك من الجمهور مجموعة من المظاهر أرصد منها الآتي:

استخدام العنف اليدوي أو اللفظي في بعض البرامج المفروض أن تكون ترفيهية، كان يقوم الممثل بضرب الممثل الآخر، وكلما كان هذا الضرب مبرحاً وقاسياً اعتقد القائمون على البرنامج أنه يجلب الضحك أو يشد الجمهور إلى المشاهدة، والأسوأ أن يكون هذا الضرب الجسدي موجه إلى المرأة، وكأن المرأة العربية لا ينقصها شيء في هذا العالم غير أن تُضرب.

ومن المظاهر الأخرى في استدرار لفت انتباه الجمهور على امتداد الساحة العربية المتلفزة الهزؤ بالمختلف من مظاهر الناس، كأن يستخدم بعض قصار القامة (الأقزام) في بعض المشاهد التلفزيونية، أو بعض ضخام القامة (أهل البدانة المفرطة) في برامج أخرى، وكأن استدرار الضحك والابتسامة لا يأتي إلا بالاستهزاء بما خلق الله من أشكال إنسانية، من القصار و الطوال و السمان أو فاقدين عين واحدة أو عيون ذات حول واضح.

من المظاهر الملفتة أيضا استخدام نساء تشوهت خلقتهن إلى أبعد حدود التشويه، وتلطخت وجوههن بطبقات كثيفة من الماكياج، كل ذلك لاستدرار بعض الاهتمام من المشاهدين.

أما المسلسلات التلفزيونية فكثير منها تذهب إلى حشر بعض القضايا العامة حشراً كالحديث تلميحاً أو تصريحاً عما يحدث في العراق اليوم بشكل سريع وسطحي، أو الالتفات إلى قضايا سياسية أو اجتماعية مكررة مثل اتهام الآخر بسقوط الطائرات المدنية العربية تأكيداً لنظرية المؤامرة، أو إظهار المجتمع وخصوصاً شبابه بالطيش وتعاطي المخدرات أجمعين أو الإشارة إلى مبيضي الأموال ومروجي المخدرات، مثل هذه المسلسلات العربية الرمضانية في غالبيتها تحارب المخدرات من جهة، وتروج للخدر عن طريق تزييف وعي المشاهد العربي من جهة أخرى.

التلوين السياسي الفاقع نجده أيضاً في بعض برامج الترفيه، وقد شاهدنا تعرض أحد البرامج المفترض أنها ترفيهية، إلى بعض الشخصيات وقد تكون محط خلاف فيما تطرح من وجهات نظر سياسية، إلا أن مناقشتها لا تتم بالسخرية منها بهذا الشكل، المسيئ قبل أن يكون إليها إلى المتلقي وإلى المرسل نفسه.

لا يوجد أكثر ما يضر بالحقيقة غير تجاهلها، والحقيقة أن بعض المشرفين والمنفذين لمثل هذه البرامج التلفزيونية يفتقدون لمبادئ المعرفة التي طالب بها تقرير التنمية، والمعرفة هنا تعني (المهنية) بأن يكون هؤلاء المشرفين على البرامج مهنيين محترفين، ولا يأخذ بعضهم المشاهدين مقاولة، من النص إلى الإخراج إلى التمثيل، وبشكل لا يمت إلى المهنية بصلة.

مثل كثير من الأشياء، فإن التلفزيون يستخدم في فضائنا العربي استخداماً عكسياً، ويجد المشرف على البرامج أن لديه الكثير من الوقت ليشغله، فيعمد على الأرجح إلى الغث الكثير قبل السمين النادر لشغل هذا الوقت.

ومن اللافت أن تمرر بعض الأساطير التي ليس لها علاقة بالواقع أو حتى بالعقل في هذه الزحمة إلى المشاهد العربي المسكين، وكأنها حقائق تاريخية، كالقول إن الحجاج بن يوسف الثقفي قد امتنع عندما ولدته أمه عن الرضاعة، فارضع لثلاثة أيام دم حوار صغير (جمل مولود حديثاً) وبعد ذلك عاد إلى الرضاعة العادية، وهذا يعني فيما يعني تبرير ما اقترفه الحجاج. المهم في الأمر أن الكثيرين يعتبرون كل ذلك حقيقة تاريخية، وتقدم لهم معرفة على الشاشة الصغيرة هي في أقلها مختلف عليها، وفي أكثرها قريبة إلى الأساطير منها لأية حقائق تاريخية ثابتة.

لا أحد ضد الترفيه والتسلية عن المواطنين العرب الذين يجدو من حولهم كل ما يذكرهم بالهم والغم، ولكن التسلية في حدودها الدنيا تتواكب مع تقديم المعلومة الصحيحة المعتمدة على نص كامل ومدروس، لا على مبادرات فردية اعتباطية تقدم للناس غصباً عنهم وفي منازلهم، ما يؤكد بعدنا عن عصر (المعرفة).

ترى من هو الملام في ذلك؟ البعض يقول إن الجمهور يريد هذا النوع من (الترفيه) ويقبل عليه، وهو قول غير صحيح في إطلاقه، فقد احتفى الجمهور العربي بأعمال متميزة أكثر من مرة في السابق، والسؤال هل قدم إلى الجمهور شيئاً أفضل مما يقدم إليهم، حتى نعرف ما هو المقبول من هذا الجمهور وما هو المجبر عليه لندرة الصالح والجيد؟

أم ترى المسئول هم أولئك الناس متخذو القرار فيما نشاهد أو لا نشاهد من برامج ومسلسلات وبرامج ترفيهية، ألا يوجد ترفيه راقٍ بعيداً عن تضخيم عيوب الجسم الإنساني أو تحويل المادة السياسية إلى سخرية، أو عرض أصناف الطبخات المختلفة في شهر من أهم رموز دعوته الاقتصاد والتعفف؟!

ربما الجميع مسئولون، وعلى رأسهم من يسكت عن هذا العبث بوسيلة معرفية أساسية ومهمة هي التلفزيون لاستخدامه في زيادة التجهيل وإشاعة ممارسات سلبية، ولا عزاء لمن كتب وشارك في تقرير الأمم المتحدة الأخير والقائل إن العلم والمعرفة ليسا سلعتين تستوردان، بل ثقافة وبنى مؤسسية لابد أن تغرس، ترى هل تغرس برامج تلفزيوناتنا في رمضان أي شيء! إن متخذي القرار لما نشاهد على شاشاتنا أحسبهم يرفعون صوتهم مع المرحومة أم كلثوم بالقول «يا ليت زماني ما يصحنيش» وأن أبقى في الزمان الذي أرتاح إليه?

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 424 - الإثنين 03 نوفمبر 2003م الموافق 08 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً