العدد 424 - الإثنين 03 نوفمبر 2003م الموافق 08 رمضان 1424هـ

الجذور التاريخية والثقافية لحركة الانفصال عن إسبانيا (1)

بلد الباسك: الإقليم العصي على الغزاة

المصطفى العسري comments [at] alwasatnews.com

في أقصى شمال شبه الجزيرة الأيبيرية تتربع أم المشكلات الإسبانية: إقليم بلاد الباسك، أو كما يسميه أهل المنطقة ببلاد الباسك من دون إقليم.

منذ قرون خلت ظل مطلب الاستقلال والانفصال المطلب التاريخي للقوميين هناك، باعتبار أن بلاد الباسك لم تكن يوما ما جزءًا من إسبانيا وفرنسا، وهو ما تشهد به اللغة والعادات الاجتماعية.

وأكثر من هذا التاريخ الدموي الذي ميز العلاقات الباسكية والقشتالية، باعتبار أن أهل الباسك لا يؤمنون بشيء اسمه إسبانيا، على أساس أن مملكة القشتاليين «مدريد وضواحيها» قامت بإجبار باقي القوميات على الدخول تحت عباءتها، خصوصاً بعد المجازر التي ارتكبتها ضد سكان جنوب ايبيريا من المورسكيين الإسبان المسلمين إثر محاكم التفتيش التي أعقبت سقوط غرناطة وإمارتها «آل الأحمر». ومن بين هذه القوميات التي مازالت تتطلع إلى الاستقلال الغاليسيين في شمال غرب إسبانيا بمحاذاة الشمال البرتغالي والتي تطل مقاطعتهم على المحيط الأطلسي، والكتلانيين في الشمال الشرقي لإسبانيا وقومية الباسك في أقصى الشمال والتي تطل مقاطعتهم على مياه خليج كانتابريكو والممتدة أراضيهم عبر السلسلة الغربية لجبال البريني «البرانس» داخل فرنسا.

زيادة على الإرث التاريخي ساهمت ايضا المتغيرات الاقتصادية والتنموية التي شهدها الإقليم محل النزاع من ازدياد حدة ووتيرة المطالبة بالاستقلال والانفصال عند الباسكيين الذين تقودهم في هذا مليشيات حركة «إيتا» الذراع العسكري لحزب باتاسونا الذي لجأت الحكومة الإسبانية إلى حله ومتابعة قادته، على رغم انه كان وإلى حدود ذلك القرار حزبا سياسيا شرعيا معترفا به ويشارك في العمليات الانتخابية في الإقليم.

«الوسط» وخلال وجودها في اسبانيا قامت بجولة داخل الإقليم قادتها إلى كل من مدينة بلباو أو كما يسميها أهلها «بلبو» - كبرى مدن الباسك وعاصمتهم السياسية والمالية، بالإضافة إلى مدينة فيثوريا، وسان سيباستيان، وخرجت باستطلاع تسبقه بقراءة تاريخية وسياسية للنزاع فيه.

تعصب الباسك للتراث

يتمسك الباسكيون بشخصيتهم المتميزة، فمنذ آلاف السنين وهم يحاربون من أجل حماية لغتهم وثقافتهم التاريخية التي يتعصبون لها بشكل مثير. وكان الباسكيون قد سكنوا هذه الزاوية من أوروبا المتمتعة بوديان خصبة خضراء تحدها جبال وعرة استعصت على الكثير من الغزاة منذ ما قبل العهد الروماني، بالإضافة إلى تمتعها بشريط ساحلي هو خليج كانتابريكو الذي يعتبر امتدادا لمياه المحيط الأطلسي.

وبحسب الباحث في جامعة بلباو الباسكية ألفريدو أورتيغا فإنه لا أحد يعرف الجهة التي قدم منها أجداده، كما لا توجد علاقة بين لغتهم المعروفة باسم «اليوسكيرا» وأي من اللغات اللاتينية الأخرى كالفرنسية والإسبانية والبرتغالية. إلا أن هذه اللغة سبقت الباقي من حيث تاريخ استخدامها ومنذ وقت كبير. وقد ازدهرت اليوسكيرا منذ الانفراج السياسي الذي عرفته إسبانيا بعد وفاة مؤسس إسبانيا الحديثة الجنرال فرانكو في العام 1975 والذي كان قد سبق أن أمر بحذر استخدامها في الحياة العامة.

واحتلت قضية الدفاع عن لغة اليوسكيرا وحمايتها جوهر صراع الباسك للتطور فيما بعد إلى مطالبة حقيقية بالاستقلال والانفصال عن كل من إسبانيا وفرنسا باعتبار أن الإقليم يتوزع على البلدين.

وبحسب إحصاءات للحكومة المستقلة في إقليم الباسك التابعة لمدريد فإن حوالي 30 في المئة من أطفال الباسك البالغ عددهم 2,5 مليون طفل يتحدثون اللغة اليوسكيرية، كما أن اكثر من 90 في المئة من أطفال الباسك يدرسون في مدارس تدرّس اليوسكيرية. كما تستخدم اللغة على نطاق واسع في المحطات التلفزيونية والإذاعية المحلية. بل ان الكثير من الصحف الإسبانية مثل «إلموندو» و«إلبايس» و«أب س» و«لاراثون» لها ملاحق خاصة من أعدادها تصدر في الإقليم محل النزاع.

وقد أظهر أهالي الباسك عبر التاريخ ضراوة في الدفاع عن منطقتهم ضد الرومان والفايكنج والقوط والعرب المسلمين فالقوميين الإسبان. وتميز الباسكيون منذ القدم بشدة تدينهم. وهو ما تمثل في الكثير من رجال الدين المتشددين أمثال الأب الباسكي «اغناطيوس لايولا» الذي أصدر الكثير من التعليمات الدينية المتشددة العام 1534 بعد أن تحوّل من الجندية إلى الرهبانية.

حرب الباسك ضد فرانكو

اعتبر إقليم الباسك من أشد المعارضين ضراوة للقوات الوطنية التابعة لفرانكو خلال الحرب الاسبانية الأهلية ما بين عامي 1936 و1939. وكانت الزعيمة الباسكية دولورس اباروري، المعروفة بالعاطفية الأولى والأم الروحية للباسكيين خلال النصف الأول من القرن العشرين نظرا إلى خطاباتها الملهمة والساخنة، والتي تنتمي إلى عائلة من الطبقة المتوسطة في مدينة بلباو، إحدى اشد المعارضين بغضاً لفرانكو الذي دعا القوات الجوية لألمانيا النازية إلى قصف مدن الإقليم الانفصالي، وقد خلّد بيكاسو عملية قصف «كويرنيكا» في الباسك التي قامت بها قوات الزعيم النازي أدولف هتلر حليف فرانكو. وتعلق اللوحة حاليا في المتحف الإسباني القومي في العاصمة مدريد.

وبحسب الكثير من الباسكيين فإن الجنرال فرانكو الذي عرف بقبضته الحديدية، بطش وعلى امتداد أربعة عقود كاملة بأهالي المنطقة خصوصاً الثوار، بسبب معارضتهم للوحدة مع إسبانيا. وقد وصل كره فرانكو للباسكيين إلى حد أنه أطلق على إقليم الباسك لقب «الولاية الخائنة».

وفاة فرانكو وتصعيد النضال

كان لوفاة مؤسس إسبانيا الحديثة الجنرال فرانكو الأثر الأكبر على الاتحاد الإسباني المشكل من الكثير من الأقاليم والعرقيات، كـ «كاطالونيا» في الشمال الشرقي، و«غاليسيا» في الشمال الغربي، و«الأندلس» في الجنوب، و«أرخبيل الكناري» بمحاذاة السواحل الجنوبية للمغرب، بالإضافة إلى الباسك أقصى الشمال الإسباني بمحاذاة جبال البريني الحدودية مع فرنسا.

فبالإضافة إلى الخطوة التي أقدم عليها العاهل المغربي الحسن الثاني خلال الأسابيع الأخيرة من حياة فرانكو باسترجاع الصحراء الغربية المسماة بالصحراء الإسبانية، بدأ الوطنيون في مختلف الجهات الإسبانية يدعون إلى الاستقلال، إلا أن منح حكومة الاشتراكيين بقيادة فليبي غونزاليس نوعا من الحكم الذاتي لمختلف الأقاليم الإسبانية خفف من الأصوات الانفصالية باستثناء إقليم الباسك الذي بدأت أصوات الوطنيين فيه بالارتفاع من أجل الاستقلال الكامل عن مدريد.

وقد كلل هذا التوجه بمضاعفة «إيتا» والتي تعني موطن الباسك وحريتهم انطلاقا من عقد الثمانينات لأعمالها العسكرية، على رغم أنها أسست في العام 1968 والتي تعتبر الذراع العسكري لحزب بتاسونا السياسي. وقد أدى ازدياد حدة كفاح إيتا ضد الوجود الإسباني في الباسك الذي تعتبره مدريد إرهابا إلى سقوط أكثر من 1000 قتيل في محاولة منها لإرغام الحكومة الإسبانية على التفاوض معها لإعطاء الإقليم فرصة لتقرير المصير، وهو ما يرفضه رئيس الوزراء خوسيه ماريا اثنار رفضا قاطعا، باعتبار أن ذلك سيؤدي إلى انهيار الفسيفساء الإسباني.

وفي خطوة منها للرد على حملات «إيتا» شرعت حكومة مدريد قوانين مشددة لمكافحة «الإرهاب» والتي تقدم تفسيرا فضفاضا لمفهوم الأعمال الإرهابية بحيث أصبح مجرد التعاطف مع الطرح الاستقلالي لإقليم الباسك باعثا على الاعتقال والمحاكمة. ومن التدابير التي اتخذتها مدريد لقمع الأصوات الاستقلالية الباسكية حظر عمل حزب «باتاسونا» المناهض لمدريد، وهو ما لم ترض عنه مختلف الأحزاب حتى تلك المقربة من الحكومة الإسبانية. حتى أن «رافا لارينا» الناطقة باسم حزب «أوسكو ألكارتاسونا» المعتدل والمعروف بإدانته المستمرة للعنف الموقع من قبل إيتا، قالت ردا عن التضييق الذي تعرض لها حزب باتاسونا المنافس «إنه من المثير للاشمئزاز أن تتعرض مقار الأحزاب السياسية الشرعية للتفتيش في بلاد تدعي أنها ديمقراطية».

وأمام ازدياد حدة هجمات «إيتا» أصدر القاضي غارسون بالتسار قرارا بحظر حزب باتاسونا الباسكي لمدة ثلاث سنوات لاتهامه بمساندة حركة إيتا الانفصالية على رغم نفي باتاسونا أية صلة له بالمنظمة.

وفي ظل التقدم الصناعي وتطور الأوضاع المعيشية في بلاد الباسك، أضيف المعطى الاقتصادي للأسباب التي تدفع بالباسكيين للمطالبة بالاستقلال، إذ انهم باتوا يشعرون بأن باقي الأقاليم الإسبانية خصوصاً الجنوبية تشكل عبئا أكبر على الاقتصاد الباسكي بالنظر إلى الفروق الاقتصادية الموجودة بين الشمال والجنوب، وبالتالي فإن الضرائب التي يجبرون على تقديمها توجه إلى تنمية الأندلس الفقير جنوبا?

العدد 424 - الإثنين 03 نوفمبر 2003م الموافق 08 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً