العدد 3955 - الجمعة 05 يوليو 2013م الموافق 26 شعبان 1434هـ

سليمان المعمري... والحياة ورق

سليمان المعمري صوت في القصة القصيرة الخليجية من سلطنة عمان بات معروفاً للمتابعين، وقد أصدر عدة مجموعات، منها: «الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة»، هذه المجموعة التي بات يذهب المحللون إلى أنها تستخدم الأسلوب العجائبي والغرائبي أو في أحسن تقدير فإنها تقوم على الرمزية، ولكنها رغم ذلك تعتمد على واقعية ممكنة ولكنها غير متحققة.

ولعل هناك ما يشي بوجود هذين الاتجاهين في داخل المجموعة القصصية، ولكننا سنتطرق إلى قصة واحدة من هذه المجموعة لتوضيح استخدامه للرمز باعتباره مشيراً إلى تسلسل الأحداث في الحياة، وهي بعنوان «الحياة ورق».

والعنوان يجذب انتباهنا إلى تلك العلاقة بين الحياة الفردية أو ربما الاجتماعية، التي تتأكد من خلال وجود الآخر داخل القصة وعلاقتها بالورق، وقد لا يبدو الأمر غريباً حين نستجلي تلك الرحلة التي لازم فيها الورق الإنسان، فالورق تنقل عبر الحضارة الإنسانية منذ أوراق البردى في الحضارة الفرعونية إلى إعادة إنتاجه بتقنيات مختلفة في الصين وانتقاله عبر طرق الحرير إلى الصناع في مركز الحضارة العربية الإسلامية من بغداد إلى دمشق، ومن مراكز الإشعاع الحضاري إلى أوروبا وحركة تعميمه التي بدأت بالطباعة.

الراوي الملتبس

والقصة يرويها راوٍ عليم، ولكنه منذ البداية يذهب في دفعنا نحو التشويق الذي يبدأ من تلك العبارات التي تفتتح القصة، والتي تشير إلى شخص ما، وكونه في السماء ولا أحد يستطيع مهما امتلك من ورق ـ أن يثنيه عن قراره، في حديث يتجاوز الراوي إلى حدود حوار مع الذات الفردية، حيث يلتبس الاثنان الراوي والبطل، وتبدأ الرحلة منذ الولادة مختصرة كل محطاتها في علاقتها بالورق.

هنا يذهب الراوي بالورق نحو اختزال السلطة التي تعطي تلك الأوراق قيمتها، تلك السلطة المنتشرة عبر أروقة الحياة بتراتبيتها، وهي التي تقض مضجع الإنسان في صراعه الاجتماعي، وصارت الأوراق تعبيراً ملزماً عن الشرعية التي تستند إلى القوة، بينما يذهب نحو التعليم باعتباره حشوا للورق في دماغه، وهي كناية عن نوعية المعرفة التي تقدمها لنا المدرسة، والتي تخرج من فتحة أخرى في الرأس، كما يشير إلى المثل الشعبي.

والورق لشهادة الميلاد وللمعرفة وللشهادة التعليمية، كما هو للعب، وهو كذلك للتعبير عن المال والثروة، وتعبير عن حرية الاختيار الإنساني وتكوين الرأي من خلال اختيار نوع الورق الذي يقرأه، والمعارضة باعتبارها فعل إنساني، ومجابهة النتيجة في الاصطدام مع السلطة من خلال توزيع المنشورات، وتوقيع صك البراءة.

كما أن الورق لرسائل الحب، ولتقديم طلبات العمل، وللعمل عليه أيضاً ككاتب، ولتغليف الهدايا، ولتوثيق عقود الزواج، والكمبيالات والفواتير، ولرسالة الاستقالة.

والورق أيضاً تعبير عن هشاشة الحياة التي نعيشها ضمن دائرة تطحن الإنسان من أجل لقمة العيش الكريمة، كما يكون الورق للصحف والوصايا.

من خلال ذلك الانتقال الرشيق بين حالات الورق التي تتعمق في حياة الفرد يبني المعمري درامية الحياة التي يعيشها فرد ما مجهول الهوية لا يبوح الورق، الذي طبع عليه المعمري قصته، باسمه ولكنه متلبس في كثير من نواحي حياتنا كأفراد في داخل المجتمع (الولادة، الدراسة، الموقف من الحياة، الحب، اليأس، الأمل).

والقصة الدرامية تقوم على حياة فرد يحب امرأة لا ترضى بالحياة المتواضعة التي عاشها وظل يعيشها كما نستبينها من خلال السرد، ذلك أنه لم يكن يستطيع الطلب من والده دراجة هوائية لأنه لا يمتلك الورق الكافي لشرائها، والورق هنا يقف باعتباره ورقة النقد، الذي نفهم من غيابه بساطة الحياة وتواضعها بالنسبة للعائلة التي لا تذكر إلا من خلال تكثيف شديد، كما يشير إلى عدم رضى الزوجة الحبيبة بسبب عدم توافر المال الذي هو ورق في النهاية، ولعله يوقد مصباحاً هنا لنعيد التفكير في علاقتنا بالورق، ليس باعتباره حالة عابرة ولكنه يوثق ذاكرة المجتمع ويتسرب في أضلاعه.

انكشاف الراوي تقوم التقنية الفنية في هذه القصة على «الفلاش باك»، أو ما يمكن أن نسميه بالنسبة للبنية القصصية التلاعب بعنصر الزمن، الذي ينخسف من اللحظة الأخيرة التي يصور فيها الراوي البطل وهو يقف على سطح العمارة، ليعيد سرد حياته بالكامل، وينكشف الراوي العليم بضني في العبارات التي تتلو الانتحار «في صباح اليوم التالي كتب (ورق) كثير عن الرجل المجنون الذي انتحر، والذي وجد من ضمن الأوراق الكثيرة في جيوبه وصيته التي كتبها في وريقة صغيرة: (احذروا الورق)»، ذلك الراوي يكمل الحكاية بعد أن تنتهي حياة البطل بالانتحار، ذلك الانتحار الذي لا يصرح الراوي بأنه تم عبر القفز من الطابق العاشر، ولكنه بختل الرواة يوحي بالحدث الذي يكون في أفق توقع المتلقي، وهو يحفر له تلك الأحبولة ليجعله يتوقع أن الانتحار حدث عبر القفز من الطابق العاشر دون التصريح بذلك.

واستخدام هذه التقنية وتكرارها منذ البداية في تصوير الورق وعلاقته بإحداث الحياة يجعل المتلقي قادراً على الوصول إلى هذه النتيجة التي تشتغل كتقنية لبناء الحدث الذي تدور حوله الحكاية، بينما يذهب في الموقف الأخلاقي تجاه الانتحار، الذي ينظر له المجتمع على أنه نوع من الجنون. ترى كيف سيعيد المعمري بناء قصته لو أنه نقلها من الورق إلى شاشة الحاسوب؟

العدد 3955 - الجمعة 05 يوليو 2013م الموافق 26 شعبان 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 3:11 ص

      عشقت نهاية التعليق.

      احببت التحلليل المتكامل للقصة واحببت ان الناقد استطاع ان يجرد نفسه من القصه وتاثيرها الفردي لديه...شرح لنا الناقد اهم احداث القصة بدون ان يلغي عامل التشويق بل جعلنا نرغب اكثر في قرات القصه موضوع النقد..... وهدا الاسلوب يتميز به الناقد المخضرم السيد جعفر حسن....وما اعجبني اكثر هو السؤال الذي ديل به الناقد نهاية التعليق ترى كيف سيعيد المعمري بناء قصته لو انه نقل قصته من الورق الى شاشة الحاسوب؟؟؟ سؤال يفتح افاق رحبه لسماء من التخيلات......احسن الكاتب وابدع الناقد.

اقرأ ايضاً