العدد 69 - الأربعاء 13 نوفمبر 2002م الموافق 08 رمضان 1423هـ

نوادر العرب في رمضان (1 من 2)

الحمقى والمغفلون والبخلاء يصنعون تاريخاً من الظُّرف

 في التراث العربي الإسلامي أخبار كثيرة عن حمقى ومغفلين وبخلاء، مبثوثة في كتب الأدب والتاريخ وغيرها، على نحو يؤكد أن الأدباء والنقاد والمؤرخين لم يقصروا همّهم على المسائل الجادة، بل تعدوها إلى ما يسلي ويضحك، صنيع صحف اليوم، إذ تفرد من صفحاتها صفحة أو أكثر للتسلية بعد عناء ما في سائر الصفحات من مسائل جادة. وربما كانت مجالس الخلفاء والأمراء باعثة على هذا اللون من الأدب. فقد كانت لهم أوقات يتخففون فيها من إرهاق الاهتمام بشئون البلاد والعباد، وكان لهم ندماؤهم من أدباء ومغنين ومهرجين. فليس غريباً، والأمر كذلك، أن تروى في هذه المجالس نوادر حادثة أو مخترعة. غير أن ميدان رواية النوادر كان أرحب من ذلك. فربما تفرغ أديب لوضع كتاب يسجل فيه نوادر فئة من الناس، كما فعل الجاحظ في وضعه كتاب «البخلاء»، أو جعل كتابه سجلاً بنوادر الناس على غير تعيين لطبقاتهم، كما فعل أبوالفرج عبدالرحمن بن الجوزي الذي وضع كتاباً عنوانه «أخبار الحمقى والمغفلين»، وجعله سجلاً بنوادر القضاة والأمراء والأعراب وسائر طبقات المجتمع. وقد جارى هذا وذاك ـ في أيامنا ـ كتاب جمعوا في كتبهم نوادر عصرنا، أو صنفوا كتبا تدور على نوادر جمعوها من كتب الأقدمين، كما فعل نايف معروف الذي وضع كتاباً عنوانه «طرائف ونوادر من عيون التراث العربي»، وغيره. ولأن المصادر والمراجع المذكورة تحرّت أخبار الحمقى والمغفلين والبخلاء في رمضان وغير رمضان، كان علينا الرجوع إلى كتبهم وإلى كتب الأقدمين، ننقب فيها عن «النوادر الرمضانية» إذا جاز التعبير، فإذا الحصاد وفير، وإذا نحن أمام نوادر لم يكن الباعث على روايتها بريئاً دائماً، فربما حمل كاتب على فئة من الناس كالقضاة، أو حمل آخر على أهل مدينة، أو حمل ثالث على مجتمع بكامله كمجتمع الأعراب، كما يحمل أهل القاهرة على أهل صعيد مصر، فنوادر الصعايدة كما تعرضها أفلام السينما تشي بأن التندر عليهم ظاهرة موجودة في المدن المصرية. ونحن لا نقصد باستعادة «النوادر الرمضانية» القول إن هذه نوادر تبعث عليها تجربة الصيام ومكابدته. فالحمقى والمغفلون والبخلاء هم كذلك في رمضان وغير رمضان. وإنما اصطفيناها لأن فيها ما يتصل بالشهر الكريم، من حيث طقوس زمنه، أو من حيث طقوس سحوره وإفطاره، وغير ذلك مما يتصل بالمصطلح الرمضاني لغة أو شرعاً، مع ملاحظة أن بين أبطال النوادر أشخاصا غير حمقى وغير مغفلين وغير بخلاء. والواقع أن صعوبة منهجية تعترضنا في ما نحن فيه من نظر في هذ النوادر، إذ ليس الهدف إعادة روايتها، بل الهدف هو الاطلاع ـ قدر الإمكان ـ على طبائع أبطال النوادر وطبائع رواتها معاً، فقد بعُد الزمن بيننا وبينهم، وإن كنا نجد فيما وصلنا عنهم أصولاً لهذه الطبائع المرحة المتأصلة في أبناء جيلنا. فنحن أيضاً نتندر على بخلائنا، ونتندر على أهل مدينة أو قرية، ونتندر أكثر على المنافقين الذين يبطنون ما لا يظهرون ثم تبدر عنهم سقطات تشي بحقيقة ما في بواطنهم، لكل ذلك فإننا لا نقيد أنفسنا بمنهج صارم من حيث التبويب. فربما أغرتنا نادرة مكانها «طقوس الزمان» بوضعها في «طقوس السحور» أو «طقوس الإفطار»، لملابسة ما. وقد تختلط نوادر الأعراب بنوادر غيرهم إذا وجدنا مناسبة بينها. ثم إن الدوافع إلى البحث في النوادر لا تخلو من الرغبة في التسلية والإضحاك، في شهر مبارك ما أكثر الورع فيه وما أكثر الجد... وليس هذا وذاك كل سلوك المسلم... فالإسلام يجيز المرح والضحك إذا لم يخرج بهما المسلم عن حدود الأدب والتقوى. نوادر اتصلت بطقوس الزمان وهي نوادر قامت على مفارقات، وبدا معها أبطالها حمقى لا يعرفون الزمن الذي اصطلح عليه الناس، أو متبرمين ضيّقي الصدور بما يحمله حلول الشهر من التزامات. وأول طقوس الزمان في الشهر المبارك التماس الهلال، ينتدب للقيام به جماعة في كل محلة، مع جواز أن يشهد برؤيته آخرون. وثبوت رؤية الهلال إيذان بثلاثين يوماً مباركة، ولكنها مع ذلك اختبار صعب لا يتورع الأعراب عن التصريح بصعوبته، يروي ابن قتيبة الدينوري في كتابه «عيون الأخبار» أن اعرابياً نظر إلى قوم «يلتمسون هلال شهر رمضان، فقال: أما والله لئن أثرتموه لَتُمْسِكُنَّ بذنابي عيش أغبر» (عيون الأخبار). هذه حال الاعرابي عند التماس الهلال في أول شهر الصيام. فهو لذلك يتعجل الناس رؤية الهلال في آخره؟ ينقل ابن الجوزي في «أخبار الحمقى والمغفلين» عن أبي علي النمري قوله: «تراءينا هلال شوال، فأتينا سوار بن عبدالله لنشهد عنده، فقال حاجبه: أنتم مجانين. الأمير لم يختضب بعد، ولم يتهيأ، ولئن وقعت عينه عليكم ليضربنكم مئتين. انطلقوا. فانصرفنا، وصام الناس يوم الفطر»، فهذا هلال يؤذن بانتهاء رمضان، ولكن الأمير لم يختضب! ويروي ابن الجوزي نادرة أخرى بطلها رجل لا يعرف كيف يحسب الزمان... «سئل بعضهم عن مولده فقال: ولدت رأس الهلال للنصف من رمضان بعد العيد بثلاثة أيام، احسبوا الآن كيف شئتم»، فالرجل أحمق أو متحامق، أو أن الخبر مخترع لمحض التفكهة. وليس غير أحمق يخلط ما بين أول الشهر وأوسطه وآخره! ولا يقل عن هذا حمقاً رجل لا يعرف أن عاشوراء لا تقع في رمضان بل في المحرم. يروي ابن الجوزي «عن إبراهيم بن دينار قال: كان رجل يقول إنه فقيه يكنى أبا الغوث وفيه تغفيل، فقلت له: ما تقول فيمن نذر صوم عاشوراء فاتفق عاشوراء في رمضان هل يجزئه عنها؟ قال الخرقي: فقد نص على أنه يجزئه، فقلت: ما تقول فيمن طلق امرأته، ثم وقفها، هل يفتقر في هذا الوقف إلى حكم حاكم؟ قال: أما مذهب أبي حنيفة فيفتقر إلى حكم حاكم، وأما مذهبنا مذهب الشافعي فيصح الوقف»، فهاتان حماقتان استُدرج إليهما الرجل استدراجاً: حماقة جهل عاشوراء أين تقع، وحماقة جهل أن المطلقة لا تكون موقوفة. فإن صح الخبر فالرجل مغفل من دون جدال، وإن لم يصح فهو خبر يعبر عما كان بين المذاهب الفقهية من صراعات استخدم التندر فيها سلاحاً. وليس بعيداً عن الذاكرة قولهم في مطلع القرن العشرين إن «التنكيت على القيصر بدء الثورة عليه». وأما أن يجهل رجل وقت غروب الشمس فهو بالغ في الحمق مرتبة عليا. وفي الخبر الآتي ما نعتقد أن راويه أراده درساً للناس في حسنات الصمت حين يكون الكلام كاشفاً لحماقة صاحبه. نقل ابن الجوزي «عن طاهر الزهري قال: كان رجل يجلس إلى أبي يوسف فيطيل الصمت، فقال له أبويوسف: ألا تتكلم؟ قال: بلى، متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غابت الشمس. قال: فإن لم تغب إلى نصف الليل؟ فضحك أبويوسف وقال: أصبت في صمتك، وأخطأت أنا في استدعائي لنطقك، ثم قال: عَجِبْتُ لإزراء العَيِيِّ بنفسه وصَمّمْتُ الذي كان بالصمت أَعْلمَا وفي الصمت سترٌ للعيي وإنما صحيفة لُبِّ المرء أن يتكلما ويروي ابن الجوزي خبراً شبيهاً به، مع فارق بسيط هو أن الأحمق كان يجالس أبا حنيفة، فعن أبي بكر بن مروان قال: «كان يجلس إلى أبي حنيفة رجل يطيل الصمت، فأعجب ذلك أبا حنيفة وأراد أن يبسطه، فقال له: يا فتى، ما لك لا تخوض فيما نخوض فيه؟ فقال الفتى: متى يحرم على الصائم الطعام؟ فقال أبوحنيفة: أنت رجل أعرف بنفسك». ويبدو أن أبا حنيفة مبتلى بالحمقى، فالجوزي يروي قصة رجل لا يعرف متى يكون الفجر، إذ «قال رجل لأبي حنيفة: متى يحرم الطعام على الصائم؟ قال: إذا طلع الفجر. قال: وإذا طلع الفجر نصف الليل؟ قال: قم يا أعرج». فأيهما أكثر حمقاً، هذا أم ذاك الذي يجهل متى تغرب الشمس؟! ضربٌ آخر من ضروب الحماقة، دار على جهل بعضهم أن الصيام لا يكون إلا صيام نهار كامل، قال ابن الجوزي: «سمع بعض المغفلين أن صوم يوم عاشوراء يعدل صوم سنة، فصام إلى الظهر وأكل، وقال: يكفيني ستة أشهر»... وأحمق من هذا رجل يحسم من أيام رمضان لأن حماره مات. قال ابن الجوزي: «وكان لبعض المغفلين حمار فمرض الحمار، فنذر إن عوفي حماره صام عشرة أيام، فعوفي الحمار فصام، فلما تمت مات الحمار. فقال: يا رب تلهيت بي! ولكن رمضان إلى هنا يجيء. والله لآخذن من نقاوته عشرة أيام لا أصومها»! تلك حماقات قلنا إنها إن لم تصح، فبعضها موضوع في إطار صراع قام وشرعت فيه النكتة سلاحاً. فهل كانت الحال كذلك في الموقف من الأعراب؟ نوادر الأعراب وهنا مفارقة. فالشائع أن الأعراب كانوا حادِّي الذكاء، وأن علماء اللغة أخذوا عنهم اللغة... فهل هو شذوذ عن القاعدة، أن يظهر بين الأعراب حمقى ومغفلون؟ ولكن أخبارهم ليست أخبار حماقة كلها، ففيها ما يدل على عدم احتمال الأعراب (عقلاء وحمقى) مشقة الصوم. في «عيون الأخبار» لابن قتيبة قصة اعرابي يبدو ظرفه واضحاً. فقد قيل له: «ألا تصوم البيض من شعبان؟ فقال: بين يديها ثلاثون كأنها القباطي»، وهو يعني أيام رمضان الثلاثين، فهي عنده بيض أيضاً، إذ القباطي «ثياب بيض من كتان كانت تنسج بمصر، شبه بها أيام رمضان». ولا يقل عن هذا الاعرابي ظرفاً رجل آخر ولكنه مدني. فهذا يتندر على فقره، إذ قيل له: «بمَ تتسحر الليلة؟ فقال: باليأس من فطور القابلة». فهو يعني أنه لا يملك طعام سحور هذه الليلة ولا يملك طعام فطور الليلة المقبلة. ومع ذلك فهو يتندر لا يتذمر. إذاً فالرواة كانوا يوردون بين أيدي أخبار الأعراب أخباراً أبطالها مدنيون. ولكن ولعهم كان بأخبار الأعراب. يروي ابن قتيبة أن اعرابياً «قدم على ابن عمه بالحضر، فأدركه شهر رمضان، فقيل له: أبا عمرو، لقد أتاك شهر رمضان. قال: وما شهر رمضان؟ قالوا: الإمساك عن الطعام. قال: أبالليل أم بالنهار؟ قالوا: لا، بل بالنهار. قال: أفيرضون بدلاً من الشهر؟ قالوا: لا. قال: فإن لم أصم فعلوا ماذا؟ قالوا: تُضرب وتُحبس. فصام أياماً فلم يصبر، فارتحل عنهم وجعل يقول: يقول بنو عمي وقد زرتُ مِصْرَهم تهيأ أبا عمرو لشهر صيامِ فقلت لهم: هاتوا جرابي ومزودي سلام عليكم فاذهبوا بسلاِم فبادرتُ أرضاً ليس فيها مسيطر عليّ ولا منّاع أكل طعام والخبر على ظرفه يوحي أن الأعراب كانوا أقل تديناً، وأن السلطان مانع من الإفطار، الأمر الذي تنقضه قصة اعرابي آخر يوردها ابن قتيبة نفسه، فقد «أدرك أعرابياً شهرُ رمضان فلم يصم، فعذلته امرأته في الصوم، فزجرها وأنشأ يقول: أتأمرني بالصوم لا درَّ درُّها وفي القبر صومٌ يا أُميمُ طويل؟ فهذه رواية تؤكد رسوخ الإسلام في البادية، ولكنها مع سابقاتها تظهر لنا أن الأعراب كانوا أقل صبراً على الصوم، لا أكثر. وربما جعلتهم الأخبار أقل ورعاً، فابن الجوزي يروي أن اعرابياً كان يصلي، «فأخذ قوم يمدحونه ويصفونه بالصلاح، فقطع صلاته وقال: مع هذا إني صائم!». ومثل هذا ما نقله نايف معروف عن مصادره، في كتابه «ظرائف ونوادر من عيون التراث العربي» من أن محمداً بن علي بن أبي طالب المعروف بمحمد بن الحنفية «رأى في الطواف اعرابياً عليه ثياب رثة، وهو شاخص نحو البيت لا يصنع شيئاً، ثم دنا من الأستار فتعلق بها، ورفع رأسه إلى السماء فأنشأ يقول: أما تستحي مني وقد قمت شاخصاً أناجيك يا ربي وأنت عليم فإن تكسني يا رب ثوباً وفروة أصلي صلاتي دائماً وأصوم وإن تكن الأخرى على حالِ ما أرى فمن ذا على تركِ الصلاة يلوم؟ أترقب أولاد العلوج وقد خلوا وتترك شيخاً والداه تميم؟ فدعا به محمد بن علي فجعل عليه قميصاً وفروة وعمامة وأعطاه عشرة آلاف درهم، وحمله على فرس. فلما كان في العام الثاني، وافى الحج وعليه كسوة جميلة وحالته مستقيمة، فقال له: يا اعرابي، رأيتك في العام الماضي بسوء حال وأراك الآن ذا ثروة وجمال. فقال: إنما عاتبتُ كريماً فاغتنيت». إلى هنا والنوادر نوادر عامة وأعراب. فماذا عن نوادر النخبة؟ ...والمراكب هيّا هيّا كتب أحمق إلى آخر: «بسم الله الرحمن الرحيم، وأمتَعَ بك، حفظك الله وأبقى لك من النار سوء الحساب، كتبت إليك والدجلة تطفح، وسفن الموصل هيّا هيّا، والخبز رطلين، فعليك بتقوى الله، وإياك والموت فإنه طعام سوء، كُتِبَ لإحدى وعشرين بقيت من عاشوراء، سنة افتصد عُجيف مولى أمير المؤمنين».

العدد 69 - الأربعاء 13 نوفمبر 2002م الموافق 08 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً