العدد 4039 - الجمعة 27 سبتمبر 2013م الموافق 22 ذي القعدة 1434هـ

تجلي البحث الإثنوغرافي في ثلاثية «أبحث عن نفسي» (2-2)

عزيز الموسوي-فتحية ناصر
عزيز الموسوي-فتحية ناصر

تمتاز رواية «أبحث عن نفسي» الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2012 للمؤلفة البحرينية فتحية ناصر بواقعيتها في الكثير من الجوانب التي من شأنها أن تزيد جرعة المصداقية والتشويق، فالحديث عن مهنة التمريض والكشف عن أمور لا يمكن معرفتها بهذه الدقة إلا من خلال معايشة فعلية، فبدءاً من كلية الخليج للعلوم والرصد الدقيق للحياة اليومية للطلبة والأساتذة، تصرفات، تجمعات، مناقشات، كل شيء لا يمكن إلا أن يؤدي لمعايشة البيئة بكل سلبياتها وإيجابياتها.

فردت الروائية لمهنة التمريض الكثير ووضعت شرحاً ليس هيناً لما تعانيه الممرضة سواء من الطاقم الطبي أو نظرة المجتمع التي يعاملها كالخادمة، وطافت بالمصحات النفسية وصولاً لدار العجزة، وعلى رغم كل ذلك تظل أمل مخلصة لقرار اتخاذها هذه المهنة ومحبة لها حتى الرمق الأخير.

«في السلمانية يلام الممرض على كل شيء. الطبيب يصرخ في وجهه، المريض وأهل المريض. يلام الممرض إذا لم يحضر الطبيب، ويلام إذا أجلت العملية، ويلام إذا لم توجد شراشف وأغطية كافية للأسرة. يلام الممرض حتى إذا مات المريض!» (ص 293، جـ 2).

تعالج في هذه المهنة العلاقة بين الموظف والمسئول وقضايا الواسطة والفساد الإداري والمالي حتى لتصل للفساد الأخلاقي لبعض العاملين في هذا المجال.

لعبة التخفي والإظهار

اختارت الروائية أسلوب الرسالة، التي تمتد فيها حتى آخر صفحة وهو أسلوب يحتاج تقنية وأدوات تجعلها قابلة للإطالة وقد تمكنت فعلاً من جعلها كذلك إلا أن ذلك لا يمنع بعض الخدوش أن تحدث خاصة في اشتباك الأصوات ومتى يظهر الصوت الداخلي للبطلة ضمن الأصوات الظاهرة؟

من التكنيك الجميل في هذه الرواية لعبة التخفي والمواراة للأسماء، نلاحظ أن أسم البطلة «أمل» يظهر بعد قطع شوط طويل جداً، وهذا بالفعل يحتاج لتمكن من دون أن تبدو العملية مبتذلة، والأمر الأكثر هو استطاعتها أن تخفي اسم البطل الحقيقي، مع توقع القارئ ظهور الاسم في كل لحظة إلا أن الرواية تُختتم من دون الإفشاء به.

من الميزات الجميلة هو الاشتغال على المكان، بين المدينة (المحرق) والقرية (كرانة) وقد نجحت في نقل المدينة والقرية إلى مخيلة القارئ بحرفية وجمالية رائعة.

فسحة التأمل

في خضم هذه التفاصيل الهائلة التي لا يمكن حصرها في عدد معين من القضايا أو الرؤى، لأن الأحداث تتشعب، تنقطع تارة لتنمو محلها أحداث أكثر وتفاصيل أعمق، وسط كل ذلك لن يفلت القارئ من العبارات العميقة ذات البعد الفلسفي الجدير بالتأمل، نورد بعضاً كشواهد...

«حين أكتب... أزور عالماً آخر... عالماً وردياً أحببته. سرقت أيامه من واقعي، فأقفلت عليه باب الذكرى، وجعلت الكتابة مفتاحاً سرياً، أدخل به هذا العالم متى أشاء...» (ص 108، جـ 1).

«سأبكيك إلى أن أنساك... فقد اكتشفت أن البكاء هو ليس أسرع وسيلة للنسيان، ولكنه الأفضل!» (ص 154، جـ 1).

«قلت لنفسي... كم جميلة هي الورود... لو لم تكن تعني، وداعاً...» (ص 246، جـ 1).

«قد تفشل أحياناً حياة بكاملها لتنجح قصة في كتاب» (ص 178، جـ 3).

ما يشبه الوخز

من الأشياء التي ستلفت نظر القارئ هي المساحة التي كانت قد أعطتها الروائية لذكر المفردات القديمة ومحاولة شرحها في الهامش، هذه المفردات تظهر بقوة في الجزء الأول ثم تبدأ بالبرود في الجزء الثاني إلى أن تنعدم تقريباً في الجزء النهائي، لم يكن سيئاً توضيح المفردات الدارجة والتعريف بها إلا أن الشيء المستحدث في الهوامش هو أن تجد تكملة للمشهد أو الفكرة للحدث أسفل الهامش ويمكن مشاهدة نماذج في (ص 110 - 133).

من الواضح أن أي قارئ لم يكن ملماً جيداً بأحداث البحرين لن يتمكن من استيعاب الفكرة بشكل جيد، لذا أجد أن الرواية ستكون مفهومة جيداً بكل أبعادها لدى القارئ البحرين وتحتاج للمزيد من الإيضاح للقارئ البعيد نسبياً عن بلد الحدث.

قد يتفهم القارئ ورود بعض المفردات باللغة الإنجليزية وأسماء للمناهج والكتب والأماكن، لكنه لا يجد مبرراً لأن تأتي بعض العبارات باللغة الإنجليزية من دون داعٍ وخاصة إذا ما عرفنا أن شخصية لورا وهي التي كان من الممكن أن تكون جميع حواراتها بلغتها لم تأتِ إلا بالعربية.

حدث إسهاب وتكرار للأحداث في مسألة إعادة الحدث ذاته بذريعة «من أوراقي» التي تعتمده الروائية من أجل تأكيد ما حدث وتقوم بإعادة كتابته في مذكراتها.

المقتبسات والفقرات والقصائد التي تأتي في بداية كل فصل أحياناً يكون لها فعل مزعج ومشتت ولا يرتبط ارتباطاً جدياً بالرواية.

اعتماد الروائية على طريقة السرد البطيء في تصوير كل حركة في المشهد جعل من الرواية قابلة للامتداد أكثر مما هي عليه الآن، لذا نلحظ في الخاتمة أن الكاتبة استعاضت بطريقة الفلاشات المختصرة التي تختصر زمناً وأحداثاً من خلال مقاطع مقتضبة تماماً كما يحدث في ختام فلم عن قصة حقيقية... «ابنتي... دخلت المدرسة»، «الوحدة.. .لست وحيدة. صار لي صديقتان»، «أم عامر... جزاها الله عني خيراً. فقد علمتني الكثير». «أبي... لم أذهب إليه بعد». الخ

إفلات...

لا يمكن وأنت تقرأ كل هذا الجهد وهذه المحاولة الجادة في البحث المجتمعي المضني والمختص بالبيئة التي عايشتها وشهدت كل مفارقاتها وتطورها إلا أن تقدر هذا العمل، على رغم كل ما به وما عليه، وهذه ميزة الأعمال أن تخلق هذا الفضاء من الاختلاف والتقارب، وأعتقد أن هذا العمل خليق بالدراسة واستخلاص الكثير إذا ما حدد هذا العمل في سياقه الزمني والذي أتمت فيه المؤلفة ثلاثيتها العام 2003.

العدد 4039 - الجمعة 27 سبتمبر 2013م الموافق 22 ذي القعدة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 1:51 ص

      وفقكم الله الكاتبة والناقد

      عرفته منابر ذات طموح يحمل كتابة أينما رحل وتنقل بدراسته سنة بعد أخرى وهو الآن ناقد يشار له بالبنان بالتوفيق الموسوي والكتابة

اقرأ ايضاً