العدد 4051 - الأربعاء 09 أكتوبر 2013م الموافق 04 ذي الحجة 1434هـ

المعايير الجديدة للكفر

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

تختلف قيمة الأشياء من بَلَدٍ إلى آخر. فما تجده هناك بدينار، قد تجده هنا بِقنطار. وقد شاء بؤس الإنسان، أن تختلف مثاقيل دمه أيضاً. فأصبح دم العربي أقلَّ قيمةً من دم الأعجمي، ودم الأسود أدنى من دم الأبيض، رغم أن الدماء كلها مُحرَّمه عند الله. وكم قامت الدنيا ولم تقعد على خطف أميركي، ونامت بشخيرها وحولها ألوفٌ تموتُ ظلماً.

وإذا ما تركنا أمراض السياسة المتسلطة، واتجهنا صوب أمراض الفكر التكفيري المنحرف، سنجد أن أسقامه بدأت في التغوُّل في دماء الناس واستباحتها أكثر من السياسة بسنوات ضوئية. فقد أظهَرَ لنا ذلك الفكر المريض، ما لم يسبق التفكير فيه من قِبَل بني البشر، فضلاً عن أن يقوموا به. إنه فكر يُساوي بين قيمة التراب (على رخص ثمنه وإباحته) وبين قيمة الدَّم (على غلاء ثمنه وحرمته). هذه هي الكارثة.

أخطر ما نَفَثَه في فضائنا ذلك الفكر البائس، هو أنه أوجَدَ معايير جديدة للكفر! الكفر، الذي صُنِّفَ على أنه «أخطر الأحكام وأعظمها» في الدين الإسلامي، بات اليوم، أيسر الأشياء في حياة هؤلاء، حيث يحمل شعاره الجهّال وأدنى الناس. يُكفَّر المرء عندهم، على مذهبه ودينه، ثم على فكره ومعتقده، ثم على رأيه ووجهته، ثم على تعاطفه وإنسانيته، ثم على نيته، فيُباح دمه، وتُطَلَّق منه زوجته، ويُقطَع التوارث بينه وبين أهله. فكرٌ يفشل في أولى اختبارات الضمير والأخلاق. إنه يتعثر في كيفية أن يكون له حس إنساني لا أكثر.

لم يعد يسمع أولئك القَتَلَة عن الجهل، ولا عن الخطأ ولا عن الإكراه، ولا عن التأويل كموانع تكفير وَرَدَت في كتب الفقه والعقائد. ولم يعد سمعهم قادراً على الاستماع لما وَرَدَ في كتاب الله: «يا أَيُّها الذين آمنوا إِذا ضَرَبْتُمْ في سبيِل اللهِ فتبيَّنوا ولا تقولوا لِمَنْ أَلقَى إِلَيْكُمُ السلامَ لسْتَ مؤمنًا تَبْتَغون عرَضَ الحياةِ الدنيا». كل ذلك لم يعد وارداً في ذلك الفكر الأسوَد. لذا، تراهم يُستأجرون من جميع شرار الخَلْق، وكأنهم مرتزقة.

ما نسمعه في العراق (كضحية أولى لذلك الفكر الجاهلي) قد لا يُصدِّقه عقل، ولا يتحمَّله قلب. تُزَنَّر الأحزمة الناسفة، على أبدانٍ شاخت عقولها، وماتت قلوبها، وعَميت أبصارها، وصُمَّت آذانها، حتى إذا ما توسَّط إرهابيٌ جَمعاً من الناس، بينهم الطفل والرضيع والشيوخ والنسوة والعجائز فَجَّره بينهم، فألقى بلحومهم محروقة متطايرة، تقرباً بذلك منه إلى الله، وطلباً في عناق الحور العين، ومجاورة الأولياء والصِّديقين!

قبل أيام، ضُبِطَ ثلاثةُ موقوفين ينتمون إلى تنظيم القاعدة في العراق، بعد أن قاموا بعمليات إجرامية يندى لها الجبين. كانوا يُفجِّرون البيوت على أصحابها، ويُصفُّون العائلات دون حسابٍ لطفلٍ أو مُسِن، ويُهجِّرون الناس على هويتهم الدينية، وبعد كلِّ عمل إجرامي يقومون به، كانوا يؤدون واجب العزاء لضحاياهم وكأنهم أحمال وديعة!

أحدهم، ممن فَقَدَ ابنه وابن أخيه ووالده قبل شهر، يقول لمراسل إحدى الصحف عن الجاني: «كنتُ أعرفه منذ ولادتي ولم أتصوّر يوما من الأيام أن يكون قاتل عائلتي. عند تعرضي إلى تفجير بعبوة ناسفة كان أول من جاء للسؤال عني وعن صحتي. وعند تفجير منزلي ومقتل أفراد أسرتي، جاء هو وأقرباؤه وكانوا من أوائل المعزين لي، وأعربوا عن حزنهم ومواساتهم»!

في جانب آخر من جنون التكفير الأعمى، قام شاب ينتمي إلى القاعدة، بزرع عبوتين ناسفتين قرب شبابيك جامع مصعب بن عمير، أثناء صلاة الجمعة، بمنطقة الركة في مدينة سامراء العراقية، فَقَتَلَ وجَرَحَ سبعة وأربعين مصلياً جُلُّهم من أقربائه! وعندما سُئِل، قال: يجب قتل رجال الصحوات! كون المسجد يرتاده منتسبو الصحوات العراقية.

بالتأكيد، نحن لا يجب أن نتساءل، إن كان لهؤلاء دينٌ أو عقيدة، وإنما التساؤل هو كيف غابت غيرتهم الإنسانية على مَنْ هم من ذات الآدمية. يُفجِّرون مدرسة ابتدائية في قرية للتركمان فيقتلون عشرة أطفال فقط لأنهم شيعة! ويفجِّرون مسجداً يرتاده مصلون سُنَّة، فقط لأنهم صحوات! فضلاً عن استهداف المسيحيين والشَّبَك والصابئة المندائيين. إنهم يعيدون نماذج التاريخ القاسية، التي تندَّرت بها المرويات.

المشكلة، أنهم لم يعودوا منحرفين في التفكير فقط، أو في توسيع دائرة التكفير، لتشمل مليارات البشر، وإنما المشكلة، هو في القسوة اللامتناهية، التي تحكم سلوكهم المشين، في ذبح الناس بالسكاكين، أو فقأ العيون وجدع الأنوف! إنها سادية من نوع خاص يجب أن تُدرَس! ولو أدركتها البشرية قبل روايات الماركيز دي ساد لنسبوا فعلها لهؤلاء حتماً.

قرأت مرة، أنه وَرَدَ في «نشوار المحاضرة» للتنوخي (وأوردها هادي العلوي في مستطرفه الجديد أيضاً) قصة لها صلة بما أقول عبر التساؤل بعدها. تقول الحادثة: أرسَلَ بجكم (التركي) وهو أمير الأمراء ببغداد، زمرة من غلمانه لِقتل جماعةٍ من الأعراب، كانوا محبوسين في الأنبار، وحَمْلِ رؤوسهم إليه، وكان عددهم عشرة. فَقَتَلوهُم وحَمَلوا رؤوسهم وعادوا.

وفي الطريق، حَدَثَ أن نزلوا للأكل، فلما أرادوا النهوض، أحْصَوا الرؤوس فإذا هي تسعة، وبحثوا عن العاشر فلم يعثروا عليه. فخافوا إن أوْصَلوها ناقصةً أن يتهمهم بجكم التركي بالتواطؤ مع أحد المطلوب قتلهم، وإعفائه من القتل.

فقرروا لإتمام العدد، أن يقتلوا أيَّ إنسانٍ يُصادفهم من السَّابِلَة، فوَقَعَ نظرهُم على رجلٍ أشْيَب، فجاءوا به وقطعوا رأسه وهو لا يدري لماذا، وأضافوا الرأس إلى الرؤوس التسعة. ثم حَدَثَ أن عثروا على الرأس المفقود، فزادَ العدد عندهم، ما حَمَلَهُم على إخراجِ الرأس البديل ودفنه والذهاب إلى أمير الأمراء.

ترى، هل أن هذه الحادثة، التي رُوِيَت لتصوير البشاعة والظلم والاستهتار آنذاك، ستكون أولى من أن يذكر التنوخي، شيئاً يسيراً من أفعال التكفيريين في يومنا؟ لا أعتقد ذلك مطلقاً.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4051 - الأربعاء 09 أكتوبر 2013م الموافق 04 ذي الحجة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 7:58 ص

      الفكر البائس

      الرجاء عدم نسيان فكر الملالي الفاشي الديني

    • زائر 4 | 6:20 ص

      ابحث عن المستفيد من هذه الأفعال لتشويه الاسلام وشق الصف

      بحسبة بسيطة تعلم انهم سلاطين الضلالة تسمروا بكراسيهم عبر شق الصفوف من خلال فتوات مساطيل الدين الزنادقة خدمة لأسيادهم اللذين نصبوهم واعانوهم في قمع شعوبهم . شق الصف من الداخل أسهل من الخارج،فهل وعي كل من يدق على وتر الطائفية؟ طبقوا الاسلام الحق...دين المحبة والتسامح والفظوا كل من يعمل عكس ذلك.

    • زائر 3 | 4:41 ص

      سؤال

      الا يوجد احد يوقف ويحاسب هؤلاء المجرمين لما قاموا به من سفك دماء للابرياء ؟ وهل هم حقيقة يعتبرون انفسهم من الاسلام دين السلام والرحمه والمبعوث به يسمي رحمة للعالمين ؟ اللهم انصر دينك وملة نبيك وخلص الامه من هؤلاء المدعين زورا حمات التوحيد.

    • زائر 1 | 1:01 ص

      ابو حسين

      يا استاذ محمد الفاضل والله ان الدين الاسلامي برئ من هولاء وافعالهم الاسلام
      دين المحبة والتسامح والسلام هولء سبب في تشوه الصورة الاسلام الاصيل
      لقد حرم الاسلام نقطة دم حرام الفكر التكفري المتخلف يتكلم عن غزاوات وفتوحات
      ضد الابرياء والاطفال والشيوخ والمختلف معه في الدين والعقيدة والغريب الجماعة
      يتكلمون عن البدعة في الدين والله طهور الفكر التكفيري اكبر وافضع بدعة في الدين
      نتمنى السلامة والهداية لجميع

اقرأ ايضاً