العدد 4058 - الأربعاء 16 أكتوبر 2013م الموافق 11 ذي الحجة 1434هـ

رجال يَحيَوْن على موت امرأة!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في شهر يوليو الماضي، توفِيَت روبستين عبدالرحمن نادر، في مستشفى «سيدة لبنان» بجونيه شمال بيروت.

قرَّر أهل المتوفاة أن يتبرعوا بأعضاء ابنتهم لمرضى محتاجين، وهي قلبٌ وكُلْيَتَان وكبد، في حين ظلَّت قَرَنَيَّتَاهَا تنتظران أحد المرضى لكي تُوهَبَا له من بنك العيون. أَنْجَت سحابة روبستين، وبَقِيَ حياً من كان الموت والعذاب يحوم على أسِرَّتهم.

أجرِيَت عملية استئصال الأعضاء والأنسجة في اليوم التالي لوفاة روبستين، حيث زُرِعَ القلب في جسد المريض محمد علي حمود بمستشفى المشرق، والكبد في أحشاء ريمون درجاني بمستشفى الجامعة الأميركية، والكُلْيَة في خاصرة ماهر أندراوس طاس بنفس المستشفى، والكُلْيَة الثانية زُرعت لجمال فضل الله علاو في مستشفى الشرق الأوسط.

رحلت روبستين وعاش محمد وريمون وماهر وجمال، وسيرى النور رجلٌ/ امرأة، أو رجلان/ امرأتان، بعد التبرُّع بِقَرَنِيَّتَيْ روبستين.

لم يسأل أحدٌ إن كانت روبستين مسيحية أم لا. ولم يسأل ذووها إن كان المستفيدون (محمد وماهر وجمال) مسلمون أم لا. الجميع كان يُفكِّر كيف يعيش أؤلئك البشر، دون السؤال عن مِلَّتِهِم ومعبودهم ودَيْدَنِهِم وما يؤمنون.

لم يتمنَّع القلب الآتي من جسد امرأة في أن يستقرَّ في قلب رجل. وكذلك فَعَلَت الكبد والكُلْيَتَان. ولم تتمنَّع أجساد المرضى، إن كان ما سيستقرّ في صدورهم وأحشائهم، قد جاءهم من جسد كانت صاحبته تتهجَّد بغير دينهم (ربما). فالموضوع أبعد وأرفع من تلك التفصيلات العَرَضيَّة، أمام بؤرة الشعور ومنتهى الهدف. إنه الإنسان وإنها الحياة.

إذاً، «إِلامَ الخُلفُ بَينَكُمُ إِلامَ ** وَهَذِي الضَجَّةُ الكُبرى عَلامَ» كما قال الشاعر شوقي؟! إذا كانت سَجِيَّة أرواحنا وأجسادنا تقبل بعضها، وتُسعِف بعضها في لحظة الموت، فلماذا نقوم نحن بخلق البُعاد والشقاق بينها في لحظة الحياة؟ هذه مفارقة عجيبة، وانفصام في شعور البشر يحتاج داؤه الأسود إلى دواء أبيض!

كثيرٌ من الخصام والقتل جَرَى ويجري على هذه الأرض، وبدم بارد، دون أن يهتز له كتف، أو تسقط من أجله دمعة، ونحن في العام 2013. في الجاهلية، كان قتل النساء والأطفال عَيْبٌ يُنقِص من مروءة العرب والفرسان! أما اليوم، والجميع يحمل رايات الدِّين ونصرته، لم يعد ذلك موجوداً، بل أصبح قتل المرأة والطفل والشيخ بلا جريرة ولا ذنب، أيسر الأعمال!

لم تعد للحياة قيمة لدى السَّفاحين، وأصحاب القضايا الخاسرة. آية المائدة الثلاثين «فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ» قد يقرؤونها كما يريدون. وآيتها الثانية والثلاثين «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا» قد يمرون عليها بلا قلب ولا عقل حتى.

كيف تُطاوع يد إنسان أن تمتدَ لقتل إنسان مثله، والتمثيل به دون أن تتحرَّك لديه أدنى مشاعر إنسانية؟ ينسى هو أن هذا القتل ليس لحظة مفصولة عن سابقها ولاحقها من زمن. فإن كان المقتول صاحب أسرة من القُصَّر هو معيلهم الأوحد، فهذا يعني أن الجاني أفقَدَها سَنَدها الأول والأخير وفتح لها العذاب. وإن كان المقتول ولداً وحيداً لأبويه، فهذا يعني أنه أدمى قلبيهما بإفقادهما إحدى الزِّينتيْن! وتتعدَّد الصور في هذه المذبحة، وتتحد المأساة.

في كل يوم يمرُّ علينا، أستغرب أن في مثله عبر التاريخ المتكرر، جَرَتْ أنهرٌ من الدّماء بدون حساب. لنا أن نتخيَّل، أن في مثل هذا اليوم الذي نحن فيه (السابع عشر من أكتوبر) كانت دماء ضحايا إيوان دي هونيدوارا ومراد الثاني في معركة كوسوفو الثانية تهز الدنيا.

وكانت دماء ساراتوجا بين الأميركيين والبريطانيين، ودماء العرب والبلغار المسفوحة على يد الأتراك، ودماء الجزائريين المغتربين على الفرنسيين في نهر السين تجري بلا حساب!

نحن نستحضر كل ذلك، ونعلم، أن جزءاً كبيراً من تاريخ هذه البشرية لم يُدوَّن عمداً. وهو ما يعني، أن كثيراً من الآهات لم تُسمَع! وأن كثيراً من مشاهد اليُتم والترمُّل لم يأتِ على ذكرها ولم يتحسسها أحد.

وربما إحدى تلك الصور، هو الفتك بمئة وأحد عشر مليون ونصف المليون من الهنود الحمر في الأميركتين بعد فتح الرجل الأبيض لهما قبل قرون!

لقد كانت الإنسانية مقرونة بالإنسان، والرحمة بالقلوب، لكنهما غابتا عن وعاءيهما، ولم يعد الإنسان «إنسانياً» بالضرورة، ولا القلب «يحمل رحمة» بداخله حتماً.

لذا، فقد أصبح منسوب الإنسان متساوٍ بالحيوان في اللامبالاة، مع فارق أن الأول يمتلك ما لا يمتلكه الثاني: العقل. لذا، فإن وزره في ذلك مفضوح، لأنه بالأساس بلا انسجام وبلا توأمة ذاتية.

بالتأكيد، أن أمام كل هذه الصور السوداء، صوراً بيضاء ناصعة، أظهَرت قدرة لا متناهية على صَون الدم، وحفظ الروح، والظهور بمزيد من الإنسانية (كما في حالة روبستين الفردية). ولو أن تلك الصور البيضاء ليست حاضرة ولا متحققة، لما أمكن لنا فهم ظلمة القلوب الطاغية على أبصارنا، فالأشياء تُعرَف بأضدادها كما يقال.

اليوم، فإن معركة الإنسان الأولى هي كيف يحمي إنسانيته، كيف يمكنه أن يحفظ الروح، ويصونها من الوحشية التي نراها تتدفق من الفكر الأعمى والسياسة الملعونة؟

المعركة التي تكون رايتها الأمانة على النفس البشرية، وعلى مشاعرها ودمها وروحها. إنها معركة الأخلاق، التي تتحد فيها الأجساد والأرواح على الآدمية الأولى: نظيرٌ لك في الخلق.

أتذكر هنا حادثة جميلة حول الأمانة على الروح في أشد لحظاتها، رُوِيَت في كتب التاريخ، تقول: حَبَسَ عبيدُالله بن زياد أبا بلالٍ مرداس، وهو من أنصار أهل النهروان، فرأى منهُ صاحبُ السجن شِدَّة اجتهادِهِ وحلاوةَ مَنطِقِه، فَعَرَضَ عليه أن يذهبَ إلى أهلهِ ليلاً ويعود قبل الصباح. وفي يومٍ أعلنَ ابن زيادٍ عزمه على قتلِ سجناء أهل النهروان لديه، وكان بلالٌ في منزلِه، فلما بَلَغَهُ الخبر أسرعَ راجعاً إلى السجن.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4058 - الأربعاء 16 أكتوبر 2013م الموافق 11 ذي الحجة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 9 | 6:32 ص

      مقال جميل

      الانسانية أسمى من كل مهاترات سفه العقول لشق البشرية لمجرد اختلاف.

    • زائر 8 | 5:06 ص

      مقال رائع

      بتنا نبحث عن بقعة ضوء نرى من خلالها أن الدنيا لازالت بخير
      أشكرك كاتبنا العزيز على هذا المقال الرائع

    • زائر 7 | 4:07 ص

      مواطن يغرد خارج السرب

      مشهد مؤلم أن ترى اخوة لك في البشرية يقاتلون بعضهم بعض ويسفكون الدماء لأنهم يختلفون في تفسير وتأويل الدين الواحد بل لا يتفقون في الدين نفسه ويؤمنون بدين سماوي آخر ، رحم الله الدكتور أحمد البغدادي الذي قال ولد الأنسان حرا وحريته في القدرة على الأختيار من دون اجبار او ترهيب والدين الأسمى في الأصل هو الأنسانية التي تنتمي لها البشرية جمعاء والأختلاف يكمن في توزيع الثروة والعدالة الأجتماعية

    • زائر 6 | 3:41 ص

      شكراً

      حقاً مقال جميل ورائع

    • زائر 5 | 2:33 ص

      مقال هادف

      بارك الله فيك ، مضمون المقال جميل جداً ، ويا ليت الناس تتعظ وتتآلف بدلا من سفك الدماء وتشغيل آلة الموت، فمتى يعي هؤلاء التكفيريون قدسية حياة الانسان؟!!

    • زائر 4 | 2:23 ص

      الامام علي

      اختصر الامام علي بن أبي طالب والخليفة الرابع عليه السلام الإنسانية والتعايش في هذا القول (إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)

    • زائر 3 | 1:19 ص

      من أجمل ما قرأت

      من أجمل ما قرأت . مقال رائع فعلا

    • زائر 2 | 12:55 ص

      الانسانية هي الدين

      كم هو رائع هذا المقال الذي يشعرك بانك انسان قبل ان تكون اي شيئ اخر . عندما ابتعدنا عن انسانيتنا وتخدقنا في خنادق مذاهبنا ضاعت الانسانية فينا وتشرذمنا مما جعلنا امة متخلفة منحطة لا قيمة ولا وزن لها تستأنس بالقتل والتكفير والتدمير باسم الله. لقد تقدمت باقي الامم عندما نمت الانسانية في مجتمعاتها وابعدت ابواق الفتنة والطائفية لتخريب عقول شبابها. كم نحن بحاجة للرجوع الى انسانيتا قبل فوات الاوان

    • زائر 1 | 11:41 م

      اذا كانت سَجِيَّة أرواحنا وأجسادنا تقبل بعضها، وتُسعِف بعضها في لحظة الموت،

      امر غريب

اقرأ ايضاً