العدد 4058 - الأربعاء 16 أكتوبر 2013م الموافق 11 ذي الحجة 1434هـ

تأتي المشكلة من تراكم الأخطاء

عدنان الموسوي comments [at] alwasatnews.com

صحافي بحريني

لا يستطيع أحد أن يتصور أن غلطة بسيطة وعفوية من لسان طفل قد تقود إلى مأساة يندى لها الجبين، ويكون ضحيتها طفلاً صغيراً لم يتجاوز السادسة من العمر هذا ما يتبادر إلى ذهن البعض من الناس أن سوء حظ راشد الطفل الصغير قد قاد في إجابة ناقصة، أو غير كاملة التفاصيل إلى قضائه المحتوم. لقد قرأت الإجابات المختلفة لآراء القراء الكرام بين معزٍ وآخر يضع كل شيء بيد القدر، وآخر يطالب بأقسى العقوبة، والأخير معذور فلا أحد منا يتمنى هذا القدر لابنه، أو أحد أبناء أهله، أو أقاربه، أو أصدقائه، أو حتى معارفه أو غير معارفه. فالأطفال أحباب الله وأقربهم إلى قلوبنا جميعاً.

إن ما حدث في ذلك اليوم المشئوم له أكثر من سبب تضافرت واجتمعت حتى أفضت إلى هذه المأساة، هناك ملامة أخرى على المُدرسة المرافقة للتلاميذ في الحافلة فلو كلفت نفسها عناء عدهم حال نزولهم من الحافلة لما حصل المحظور وهناك سبب آخر، فالإيعاز لشخص للقيام بمهمات دون مهماته وواجباته المتعارف عليها يستدعي بعض الإرشاد مثلاً لا تنسَ عد التلاميذ عند نزولهم، إن اختيار عاملة منظفة للقيام بواجب مُدرسة مرافقة أمر لا يحتمل التعليل ما لم تكن تلك السيدة قد أوكلت إليها تلك المهمة من قبل، والأولى أن يتم اختيار أي شخص من الجهاز التعليمي للقيام بهذه المهمة أعني أياً من المدرسات التي تخلو جداولهن من الحصص الأولى، وإذا رفض البعض لا مانع من تذكيرهن بأن هذه المهمة ليست من دون مقابل، أعني مقابلها أجر ساعات إضافية. إن توكيل البعض بمهمات سريعة وعاجلة قد تكون لها عواقب وخيمة إذا قبل الشخص القيام بها بغير رضا أو من دون مقابل، وفي هذه الأحوال الأولى اختيار من نجد عندها أو عنده الاستعداد للقيام بالمهمات المعطلة إذا سمع رنين القرش قال نعم، وهم كثر في هذا الزمان.

الأمر الآخر وهو سؤال المدرسة لأخ الطفل عبدالله، أين راشد؟ وقد سمعت 3 إجابات في هذا الصدد الإجابة الأولى: مريض ونائم، والثانية: مريض ونائم في المنزل، والثالثة: مريض ونائم في الحافلة، فإذا افترضنا أسوأ الاحتمالات الإجابة الأولى فهي إجابة صحيحة وكاملة من طفل صغير، فالأطفال يتكلمون بعواطفهم لا بعقولهم، وليس هناك من شيء يسيء إلى الطفل أكثر من أن تسخر من تصرفاته كأن تقول له «لعبك ليست جميلة» أو أنك «تضيع وقتك معها»، أو «لا تصارخ أزعجتنا»، أو «روح العب بره مالي خلقك»، هذه العبارات تقابلها السخرية من شخص راشد عندما تتهمه بالهبل وقلة الفهم أو سوء التصرف، إن أخ الطفل بكل عفوية قد حرف السؤال من أين أخوك راشد؟ إلى كيف حال أخوك راشد؟ فالجانب العاطفي غالباً ما يطغى على حديث الطفل لذا نلاحظ أن الطفل لا ينسى الإساءة حتى لو تقربت منه وأفهمته لاحقاً أنها من دواعي السلوك والآداب، لأنك خاطبته في البداية بلغة يفهمها، ولكنها فجة وتفتقر إلى الكياسة والأدب ولذلك يعبر الطفل عن استيائه بالبكاء، وفي حالٍ كهذه لو وضع السؤال في صيغة أخرى، مثال: «لماذا لم يأتِ أخوك راشد؟» لكانت الإجابة أقرب إلى أنه مريض ونائم. المشكلة أن مخاطبة الأطفال تستدعي أن نعي أن الأطفال يتخاطبون ويتواصلون بعواطفهم، وليس للمنطق أو السببية مكان في عقولهم، ولو أُعيد السؤال أين نائم أخاك؟ فربما أجاب أنه نائم في الحافلة وغياب السببية والمنطق عند الطفل سبب رئيسي في عدم تطرق عبدالله (أخ الطفل) في الحديث مع أحدهم عن غياب أخيه وتركه نائماً في الحافلة فمادام هو نائم فهو بخير وقريباً سيستيقظ ويتغذى ويلعب، أما أين ستمضي الحافلة بعد ذلك وسيجري ما جرى فهي بعيدة كل البعد عن مفهوم الطفل وتصوره.

أما إذا افترضنا الإجابة الثانية فربما تشفع بعض الشيء للمُدرسة ولكن ذلك لا يعفيها من مسئولية الاستفسار عن حالة الطفل في المنزل، أما الإجابة الثالثة فلا تحتمل الخطأ ولا التأجيل.

إن ما انتهى إليه الأمر يفسر القول المشهور: «تأتي المشكلة من تراكم الأخطاء».

أخبرني أحدهم أنه تألم جداً لحال راشد فسألته ولم؟ أهو من أقاربكم؟ فقال لا والله ولكني أستطيع أن أستشعر الخوف والفزع والعطش الذي أصابه، ثم أضاف: كلما أتذكر المصيبة أصاب بقشعريرة. فقلت وكيف ذلك؟ قال: عندما كنت في السابعة من العمر كان أبي يأخذني إلى المدرسة فوق دراجته النارية (سكوتر) وعند انتهاء المدرسة كنت أعود مشياً على الأقدام لأن الشارع المؤدي للمدرسة في خط مستقيم من المنزل على رغم أن الشارع طويل بالقياس إلى طفل في السابعة. في أحد الأيام قررت نساء الحي الذهاب إلى عين عذاري من الصباح حتى الساعة الرابعة عصراً، فرفضت والدتي الذهاب معهن لأنه لن يكون أحد في المنزل ساعة عودتي فأقنعتها إحدى السيدات وهي كبيرة في السن أنها ستكون بانتظاري ساعة عودتي من المدرسة وتم الاتفاق على هذا الأمر من دون أن يعلموني، يقول صاحبنا: في ذلك اليوم رجعت من المدرسة كالعادة وكان الباب غير مقفل ففتحته ودخلت فلم أجد أحداً وكانت والدتي شديدة الحرص لذلك كانت تستقبلني بحفاوة حين أعود، وبدأت أناديها فلم أجد أي جواب، وأخذت أواصل النداء ودموعي تذرف واستولى عليّ الخوف والفزع، وشعرت أن البيت صار داراً للأرواح الشريرة وبقيت على هذا النحو أبكي وقد بلغ مني الإجهاد والتعب والعطش والخوف بأن وضعت حقيبتي على الأرض ولم أتذكر شيئاً بعد ذلك، وقد صحيت على صوت والدتي وهي في شدة القلق والهلع عليّ، وسألتني: «وين أم جاسم أنا موصتنها تجيك؟» وبعد جهد طويل أسقتني ماء وهدأت من روعي وسكنت خواطري. لكن كل الذي أتذكره بعد ذلك أني نمت حتى الصباح بعد أن أكلت شيئاً بسيطاً وشربت ماءً كثيراً. يقول والحديث لصاحبنا: صار بيتنا ذكرى سيئة بقيت تلازمني لمدة طويلة ومازلت إلى اليوم أحمد الله أن أمي عادت قبل المغرب وحلول الظلام، ولو حصل ذلك فالله وحده يعلم ماذا كان سيحل بي. يقول: نسيت هذه الحادثة تماماً، ولكن موت راشد بتلك الطريقة المفزعة أيقظ تلك الذكرى عندي من جديد.

سألت الطبيب محمد الساعي وهو طبيب أطفال: ترى ما السبب الرئيسي في موت راشد، فقال: الجفاف وشدة الحرارة في الحافلة والإجهاد والخوف، فقلت: أتؤدي هذه الأسباب للموت؟ فقال وهو ينظر إلى طفله: الأطفال مخلوقات تحتاج إلى عناية شديدة فلا تجعلهم يغيبون عن ناظريك.

كل ما نملكه الآن الترحم على روح الفقيد وندعو الله العلى القدير أن يسكنه فسيح جناته ويلهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان. وأن نكون مستقبلاً أكثر حرصاً وعناية بالأطفال وألا تسلم المدارس رقابها إلا للسواقين المعتمدين والمجربين حتى لا نُفجع بطفل آخر نتيجة للتسيب، وفى هذا الصدد ذكرتني إحدى الطالبات في جامعة القاهرة بأن مديرة سكن الطالبات البحرينيات في السبعينات من القرن الماضي كانت لا تبقي على الطباخ لأكثر من أيام واستمر الحال هكذا حتى استقرت على أحدهم، وعند سؤالها عن السبب، أجابت: هو الوحيد الذي كان يغسل يديه بالماء والصابون بعد استخدام الحمام، وقد نجح في الامتحان.

إقرأ أيضا لـ "عدنان الموسوي"

العدد 4058 - الأربعاء 16 أكتوبر 2013م الموافق 11 ذي الحجة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 6:26 ص

      الله يرحمه ويصبر اهله.

      كأن المدرسه ومجموعه من الاداريات مازالوا يقبعون في السجن بسبب مغنطت المحاكمات.

اقرأ ايضاً