العدد 4095 - الجمعة 22 نوفمبر 2013م الموافق 18 محرم 1435هـ

الحُب أم القُوّة؟

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

يُحكى أن رئيس آبل الراحل ستيف جوبز كان شديد القسوة على موظفيه، سليط اللسان، صفيق الوجه، لا يتوانى عن شتمهم وإهانتهم، وطردهم من العمل أمام الملأ دون تردد. وكان معظم موظفيه يتحاشون الركوب معه في المصعد، أو الحديث عن عملهم أمامه لأنه، في أغلب الأحيان، سيشتمهم ويصرخ في وجوههم.

ويحكى أنه أدخل المستشفى مرةً ووضع له الطبيب قناع الأوكسجين على وجهه فنزعه وصرخ في الطبيب طالباً منه أن يأتِيه بخمسة أقنعة أخرى ذات أشكال مختلفة حتى يختار أحدها. حتى الجهاز الموصول بإصبعه لم يعجبه، وكان ينزعه من يده منتقداً تصميمه البشع! إلا أن ستيف أحدث تغييراً تاريخياً في مجرى التكنولوجياً، وجعل حياتنا تدور حول منتجات آبل إلى أن صارت ثقافةً عالميةً باتت تُسمّى بثقافة «آيبود». وفي خلال عقد من الزمان نقل ستيف البشرية سنوات ضوئية إلى الأمام على مستوى الاتصالات، وقواعد المعلومات، والتطبيقات الإلكترونية وغيرها من المجالات التي يصعب حصرها.

وفي التاريخ، كان الرئيس الصيني ماوتسي تونغ أحد أشد القادة دموية وفتكاً بالبشر، ويعتقد المؤرخون بأنه مسئول عن إبادة ثلاثين إلى أربعين مليون صيني في زمن الطفرة الكبرى. ويعتبره الصينيون، والشيوعيون عموماً، أحد أهم ركائز الحِراك الشيوعي في التاريخ، وموحد الصين ومؤسسها، حيث لا ينسون له خطة الإصلاح الزراعي التي فرضها على الأرياف، في محاولة للقضاء على النظام الإقطاعي المتجذر في الصين منذ مئات السنين. وفي عهده أطلق الصينيون أول قمر صناعي إلى الفضاء، واستعادت الصين كرسيها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن. إلا أن كل ذلك لا يُلغي أنه كان مجرم حرب، حيث يقول متحدثاً عن مؤسس الصين شي هوانجدي: «لقد تفوقنا على شي هوانجدي بمئات المرات، فلقد دفن فقط 460 عالماً حيّاً، أما نحن، فدفنا 46000 عالماً وهم أحياء».

وفي التاريخ أيضاً، كان ملك إنجلترا هنري الثامن شديد البطش بمن يختلف معه، حتى زوجاته. فلقد أعدم اثنتين، وطلّق ونفى اثنتين، لمجرد الشكّ في أغلب الأحيان. وكان يُطلق الحملات على المدن والقرى التي تدين لبابا الفاتكان، لا له هو، بالولاء والتبعية، فتُبيد كل من في القرية، حتى الأطفال، وتُعلّق جثثهم في المشانق خارجها حتى يتعظ المارون أمامها ويذعنوا للملك.

كان جبّاراً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولكن، يَعدّه البعض أحد أهم ملوك إنجلترا على الإطلاق. فلقد انفصل عن الكنيسة الكاثوليكية في روما، وأسس كنيسته الإنجليكانية وعيّن نفسه رئيساً لها وممثلاً عن الرب في الأرض. ثم أمر بترجمة الإنجيل إلى الإنجليزية وسُمح للناس بقراءته لأول مرة بعد أن احتكرته الكنيسة الكاثوليكية لمئات السنين. وكان له الفضل في تثبيت النظام البرلماني وإعطائه صلاحيات حقيقية (إلا فيما يختص بشئونه الملكية) حتى تطوّر مع الوقت ووصل إلى ما هو عليه اليوم. ويُعزى لهنري الفضل في تأسيس الأسطول البحري الإنجليزي الذي بَلَغَ أشده في عهد ابنته إليزابيث وهزمت به الأسطول الأسباني «الأرمادا» لتبدأ سيادة الإنجليز على العالم.

وكذلك حال معظم رجال التاريخ، يبطشون بِيَدٍ، ويُغدقون الخيرات ويحققون الإنجازات بالأُخرى، فكيف يصير ذلك؟ كيف نُثني على من قتل الأطفال، وعلى من دفن المفكرين، وعلى من كانت الشتيمة والإقصاء من صِفاته، دون أن نشعر بأننا نرتكب ذنباً! ونعتقد، غالباً، بأن إنجازات هؤلاء أكبر من أخطائهم!

تحدثتُ إلى باولو كويلو عن هذه الصراعات البشرية، فقال إن الإنسان وُلد مقاتلاً، لا يبلغ مُبتغاه إلا بالصراع، ولهذا عليه أن يبحث عن معارك جديدة في الحياة ليبقى فاعلاً فيها. ويرى باولو أن أحلام المرء وطموحاته انعكاسٌ لتلك الفطرة القتالية التي تدفعه للاستمرار والمثابرة.

اتفقت معه جزئياً، إلا أنني أختلف مع الفكرة الميكيافيلية القائلة: «من الأفضل أن يخشاك الناس على أن يحبوك»، فكما أن القتال من مهمات الإنسان فإن التسامح من صفاته. وهناك، في رأيي، مرحلتان من مراحل تحقيق الإنسانية: الأولى تتمثل في الإنسان المتسامح، أي الذي يغفر لنفسه عيوبها وزلاتها وضعفها وقصر قدراتها؛ والثانية تتجلى في الإنسان المسامح، الذي يتجاوز عن نقص الأشياء وخلل الحياة ومشكلاتها؛ كألا يغضب إذا ما ثقب إطار سيارته في منتصف طريق طويل بعد منتصف الليل. ويتجاوز عن أخطاء الآخرين، لا اضطراراً أو رغبةً، ولكن فطرة.

وإذا اجتمعت هذه الصفات في الإنسان، فإنه عندما يقاتل يُشيّد أكثر مما يهدم، ويبتسم أكثر مما يتجهم. لا يحصد إلا بقدر ما يزرع، ولا ينتصر إلا بقدر ما يفوز. الفرق بين النصر والفوز أن الأول يأتي بعد معركة، والثاني ينبع من الداخل حتى لو قعد المرء على كرسي في حديقة عامة يُطعم الطيور، ويُحيّي المارة. إنه شعور بنشوة انتصار الإنسان في داخله على الوحش الذي غالباً ما يظهر عندما نختلي بها. قد تتفوق القوة على الحب في كثير من الأحيان، ولكن الحب وحده ما يبقى بعد أن يرحل الجميع.

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 4095 - الجمعة 22 نوفمبر 2013م الموافق 18 محرم 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 3:53 ص

      محمد

      انت رجحت القوة والبطش ؟؟ فما في داعي للسؤال ؟؟ لاني ابحث في الحب والحنان ولفت انتباهي موضوعك ؟ واستغربت معقولة مسلم يحب ويتكلم بجراه ؟
      النتيجة لا

    • زائر 2 | 1:26 ص

      اخي

      هناك عظماء يحبون الانسان يرحمون الضعيف ويرشدونه علي الطريق الصحيح لم يأتوا الي فئه معينه صحيح وجدوا او ارسلوا الي مكان او بشر معين ولاكن تكون النتيجه والرساله والهدف الي كل البشر فسلام علي من نقلنا من الظلمات الي النور بعد شكر الله

    • زائر 1 | 11:23 م

      لا أؤيد أقوال بوالو كويلو

      كل المقال و ما أسس عليه الإستنتاج مبنى على الوضع الموجود على هذه الكرة. أى النظام الذى اسسه الإنسان منذ الخليقة و حتى الآن . هذا النظام فشل فى تأسيس السعادة للبشر. حتى الذين ذكرهم المقال أو لم يذكرهم و الذين رسخوا القيم على هذه الكرة لم يكونوا سعداء. الصفات فى إنسان ليست موروثة بل مكتسبة و إنها جميعا تدور فيما هو مؤسس. مثلا لا يولد شخص مقاتلا بل تفرض القيم عليه القتال. لم يبرز حتى الآن من يقف و يقول كل نظامكم خطأ و مبنى على منافع فئة قليلة و إستعباد بقية البشر. الفئة القليلة هذه تعيسة أيضا.

اقرأ ايضاً