العدد 95 - الإثنين 09 ديسمبر 2002م الموافق 04 شوال 1423هـ

«الإنترنت» ليس حاجةً ماسةً دائماً!

«أما أنت أو الكمبيوتر في هذا المنزل». بعد اطلاق الوالد لهذه المعادلة الحاسمة وتفجيره غضباً مكبوتاً من جهاز التلفزيون الذي «يجبرنا على اقفال افواهنا بالساعات»، اضطر حبيب الى اعادة جهاز الكمبيوتر في اليوم نفسه الذي اشتراه فيه.

«وهل ينقصنا من يستهلك ما تبقى لنا من وقت للتحاور؟». وكان حبيب نجح في اقناع والدته بحاجته الى جهاز الكمبيوتر، وحملها على مساعدته في تسديد اقساطه المتوجبة، لكنه يصطدم برفض والده، الموظف في احدى الدوائر الحكومية، يقول «ادخال عدو الى منزله» يتسبب في تفكك العائلة، ويصرف الأولاد عن دروسهم... الخ، وبقناعة راسخة يضيف: «تعلمنا وتوظفنا من دون الحاجة اليه، فلماذا صار الآن حاجة؟».

ولعل أبا حبيب هو أحد النماذج التي تعاني «رهاب التكنولوجيا»، أنهم يتوجسون من التقنية شراً حتى ينأون بأنفسهم عنها.

وفي كثير من المجتمعات تعلو أصوات من يطالبون بـ «سقوط التقنية لكن هؤلاء لا يلقون أي اهتمام يذكر سواء من قبل الحكومات أو منتجي ومصدّري التقنيات الحديثة، أو حتى من وسائل الاعلام.

وتقتصر الملفات التي تتناولها وسائل الاعلام أحيانا على «بدع» التقنية» وصرعاتها. ومن الامثلة على ذلك ما تناقلته وكالات الاخبار عن متطوعين أدخلوا تجربة البقاء في غرفة منعزلة مئة ساعة لاثبات قدرتهم على العيش بفضل شبكة الانترنت وبطاقة المصرف فقط لاغير! وكذلك تهتم بأخبار مدمني الانترنت المضحكة - المبكية، وافتتاح أول مركز علاجي لهم في سان فرانسيسكو، وكأنه ضريبة عادلة تثبت نجاح التقنية» ويميل الاعلام الى تناول إبتكارات التقنية من أجهزة ومعدات وبرامج عبر التركيز على جانبها الايجابي.

فمثلا ينال الكمبيوتر المختص بمحال السوبرماركت، الذي يؤمن للزبائن تسجيل الأغراض التي يشترونها ويدفعون ثمنها بواسطة بطاقة الاعتماد، كل التقدير، وفي المقابل لا يعطي اهتماماً مناسباً للموظفين الذين خسروا عملهم عندما حلت التقنية محل ايديهم. وكأنها حال من التجاهل لمن يسير خارج ممرات التقنيات الحديثة المزخرفة وطرقاتها المعبدة بالأوهام والوعود. الأرجح أن حال الخوف من التقنية تشتد بسبب الكبت والحرمان من الحق في الحديث بصوت عالٍ. ويجد هؤلاء أنفسهم مبعدين، من دون أن تكفل أية جهة عناء البحث والاستقصاء لمعرفة الاسباب.

ويكره البعض التقنية لأسباب اقتصادية واضحة، فهم لايستطيعون تسديد الكلفة والضرائب التي تستدعيها عملية شراء الأجهزة الحديثة، وكذلك الاتصال بشبكات الاتصال والمعلوماتية.

وثمة من ابتعد لأسباب ثقافية عدة، والبعض لا يملك التأهيل العلمي الكافي للتعامل مع الاجهزة المعقدة وبرامجها. أما المبعدون نفسياً، فلم يتمكنوا من التكيف مع ضيف مجهول كثير الارتباطات مثل الكمبيوتر، فهل عليهم ذلك كما المستوطن الغريب؟.

وما يزيد في الخيبة صوت بعض المفكرين، مثل عالم النفس «شيلي غلاندينغ» الذي يعتقد أن التكنولوجيات التي ابتكرتها ونشرتها المجتمعات الغربية هي «خارجة عن السيطرة وتعكس التوازن الهش للحياة على الارض».

ويعيد هذا الأمر الى الأذهان بعض أحداث الثورة الصناعية. ففي العام 1811، تمرد العامل البريطاني نيدلود وحطّم نول النسيج الذي يعمل عليه. وما لبث الاحتجاج أن انتشر، ولجأت مجموعات من العمال الى تحطيم آلات المصانع. وعرفت حركتهم باسم «اللودية» وبررها بالخوف من البطالة اذا حلت الآلات محل العمال. حتى اليوم وبعد مرور قرنين من الزمن، يترجم أصحاب النزعة «اللودية» الجديدة احتجاجهم بتدمير أجهزة الكمبيوتر.

ففي سنة 1995 قدم عالم الاجتماع كيرك باتريك سايل في مدينة نيويورك نموذجاً لـ «اللودية» الجديدة، من خلال تحويله جهاز «PC» الى قطع متناثرة أمام 1500 شخص، وافقوه على عمله بكل رضى.

وفي تموز 2000، وعلى هامش قمة الدول الثمان الصناعية، أضرم أعضاء جمعية «أو إن جي» النار في كومبيوتر على شاطئ مدينة أوكيناوا. ورفعت هذه المجموعة التي تكافح من أجل الغاء ديون العالم الثالث شعار «الكمبيوتر لا يؤكل» وطالبت المجتمع الدولي بتأمين الاحتياجات الاساسية للدول الفقيرة قبل إسباغ الوعود بمستقبل زاهر في ظل المجتمع الشامل للمعلوماتية! يعزز هذا الاتجاه المعارض للتقنية، اعتراف أغنى رجل في العالم وصاحب أقوى مؤسسة للكمبيوتر بيل غيتس أنه أخطأ حين ظن أن هبات من التقنية المتطورة من مايكروسفت التي يمتلكها، ستساعد الدول النامية. كما اعترف بأن أفضل برامج المساعدة هي تلك التي تقدم ما ينقذ الشعوب الفقيرة من عواقب الفقر والمرض. «فلا جدوى من اهدائها جهاز الكمبيوتر وبرامجه وافرادها يعيشون على دولار أو أقل يوميا».

من جهة أخرى، يبدو هؤلاء المصابون برهاب التقنية أكثر صدقاً في مواقفهم ممن يحاول اختراق الغد الالكتروني من دون أن يمتلك أي معطيات حقيقية أو أهداف محددة.

وتعكس هذا الحال، مقاهي الانترنت المنتشرة لتستقطب كل من يرغب في التعرف والمشاركة في الحياة التقنية الجديدة «على عيون الناس، والأصدقاء فيؤمّن نفسه من تهمة الامية الرائجة أو الانتماء الى كوكب آخر، والتي تلاحق كل من يفضل أو يختار الابتعاد عن استخدام التقنية.

الا ان ارغام الناس على مجاراة «موضة» التقنية، لا ينتج سوى المزيد من المزايدات والمبالغات بين الشباب، عن الوقت الذي يمضيه كل منهم أمام شاشة الكمبيوتر مرتبطاً بالشبكة... وان اقتصر «انغماسه على بعض المحادثات مع اصدقاء مفترضين في اطراف مختلفة من العالم، أو في أقصى الحالات على الألعاب الرقمية (Games) ويستخدم بعضهم أحيانا، ممن لا يتقن اللغات الاجنبية، الاحرف الاجنبية لكتابة كلمات عربية اللفظ... أليست الحاجة أم الاختراع؟

أما بالنسبة لموظفي المؤسسات والشركات الخاصة، فلم يكن الاختيار بين تعلم استخدام التقنيات الحديثة وبين الانصراف لمساعدة زوجاتهم في ادارة الأعمال المنزلية، شديد الصعوبة. بعكس جلوسهم، وقد سبقتهم بطونهم، أمام اجهزة الكمبيوتر، وتزايدت الخطوط البيضاء في رؤوسهم من شدة التركيز لتعلم التقنية... على كبَر?

العدد 95 - الإثنين 09 ديسمبر 2002م الموافق 04 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً