العدد 4171 - الخميس 06 فبراير 2014م الموافق 06 ربيع الثاني 1435هـ

الممارسة قاطرة الفكر

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

بخلاف الكثيرين ممن سطروا كلمات حزينة في رثاء فقيدنا العزيز أبي خالد، لم يتسن لي شخصياً، اللقاء به، والتعرف عليه عن قرب. لكن سيرته العطرة، وعطاءاته ومآثره الوطنية والقومية، وتلاحم العقل والعاطفة في سلوكه، لم تكن تجعل المرء بحاجة إلى عناء، لكي يشعر بمدى اقترابه منه.

في شخصية راحلنا الكبير يصعب الفصل بين الذاتي والموضوعي، فهو يمارس في حياته العملية ما يعتقده ويؤمن به، وما يمثل في وجدانه ووجدان أقرانه ومجايليه، الحلم الأكبر، حلم النهضة العربية، والتنمية والعدالة، وحماية الأمن القومي العربي والوحدة. هذه الأهداف بالنسبة لأبي خالد، ليست ترفاً فكرياً، بل التزاماً، جسده عملاً واحترافاً، طبع مسيرة حياته.

فهو الوطني الغيور، حين يكون وزيراً يلتحم المعنى بالممارسة، من خلال الإتقان والتفاني والعمل الدؤوب، ونكران الذات. وهو الرجل الغيور، المهموم برفعة دولة الإمارات، باعتبار أن بناء الوطن خطوة راسخة على طريق الحلم الكبير، حلم الأمة العربية الواحدة.

وكان التماهي في الحلم والفكر والممارسة بين راحلنا الكبير، عبدالله وشقيقه المرحوم تريم، واستقرار القضية الفلسطينية وهدف الوحدة العربية في أعماقهما، قد قادهما، منذ بداية السبعينات، إلى تأسيس صحيفة «الخليج»، المنبر العروبي المتميز والملتزم، الذي قدم مع الأيام، زاداً وفيراً، لكل المؤمنين بقدر هذه الأمة، وحقها في النهوض، وأخذها المكان اللائق بها بين الأمم.

ولم يكن قرار تأسيس الصحيفة، سهلاً. فقد جاء ذلك في مواجهة التيار، حيث تزامن مع انهيارات كبرى في بنيان الأمة، وأيضاً في تغير مفاهيم سكنت في اليقين العربي، عدة عقود، حول الوحدة العربية وتحرير فلسطين. وكان قدر الأخوين عمران، أن يواجها، مع بداية مشروعهما طوفاناً جارفاً، لا يستطيع مواجهته سوى الرجال الكبار.

فقد بدأت الصحيفة بالصدور في أكتوبر 1970، بعد نحو 20 يوماً من رحيل الرئيس جمال عبدالناصر، الزعيم الذي قاد المعارك الوطنية، والذي عرف بقيادته للنضال التحرري والقومي. وأقل من ثلاث سنوات على معركة العبور العظيم في أكتوبر 1973 .

وكانت مرحلة صراع إرادات بين مشروع يسعى لتحقيق الاستقلال، ويرفض التبعية، ويؤمن أن طريق نهوض الأمة لا يمكن أن يكون في إطار آخر، غير إطار وحدتها، ويرى تلازماً لا ينفصل بين مشروع النهضة وتحرير فلسطين، وبين مشروع آخر، لا يرى في الاحتلال الصهيوني لفلسطين والأرض العربية، سوى نزاع على حدود، يمكن حله، عن طريق المفاوضات والاعتراف المتبادل، بين المغتصب والضحية .

كان الراحل أبو خالد، وشقيقه، متمسكين بمبادئهما، ووضعهما في ذلك، في ظل تلك الظروف، أشبه بالقابض على جمر. لم تثن من عزيمتهما وتصميمهما على الرحلة الطويلة، رحلة بناء هذا الصرح الثقافي الكبير، جملة التداعيات التي مرت بها الأمة، بعد حرب أكتوبر، والانتقال الرئيسي في الاستراتيجيات والسياسات العربية، تجاه الصراع العربي الصهيوني، ومفاهيم الاستقلال والحرية، والموقف من التبعية.

كشهاب مضيء، وكما حضوره المليء بالكبرياء والعنفوان والحركة، غادرنا أبو خالد، إلى الرفيق الأعلى، بعد أن ترك لنا زاداً كبيراً، وواحة حانية نستظل بظل أغصانها الوارفة. فقيمة صحيفة «الخليج»، لا تكمن فقط في قيمة المقالات والدراسات والمواد العلمية، التي تتصدر صفحاتها، وهي كبيرة، ولكن أيضاً، في كونها ملتقى للمفكرين والمثقفين والكتّاب العرب، من معظم الأقطار العربية.

لقد حقق الراحلان الكبيران تريم وعبدالله، جزءاً من حلمهما الجميل، في الوحدة العربية، حين جعلا من «الخليج»، أمةً مصغرةً، ترفع فيها رايات العرب، في العزة والكرامة. أصبحت الخليج مأوى يلجأ له عشاق الكلمة، والمؤمنون بقدر أمتهم، وبحقها في التقدم والازدهار.

ولأن الأهداف النبيلة لا يمكن أن تكون وسائل تحقيقها إلا متماهية مع جوهرها، فقد اختارت صحيفة «الخليج»، تحت إدارة الراحل الغالي، طريقاً صعباً وغير مألوف في الصحافة العربية، طريق الانحياز للوعي. وهذا طريق، شروط السير فيه، الوعي والإرادة والقدرة، والأمانة والصدق والإحساس بالمسئولية. وفي مجال الصحافة، تختزل مفردة القدرة على الالتزام بالحقيقة، جميع هذه الصفات.

رحم الله فقيدنا الغالي وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان، و»إنا لله وإنا إليه راجعون».

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 4171 - الخميس 06 فبراير 2014م الموافق 06 ربيع الثاني 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً