العدد 4191 - الأربعاء 26 فبراير 2014م الموافق 26 ربيع الثاني 1435هـ

تواضع الحُكَّام

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

«أوَّلَ ما ظهرَ من الظلم في أمة محمد (ص) قولهم تَنَحَّ عن الطريق». هذا القول ليس لي بالتأكيد، بل هو لأبي منصور الثعالبي النيسابوري (961 – 1038م) ذكره في كتاب «لطائِف المعارف». وكان الثعالبي يقصد بقوله ذاك «تَنَحَّ عن الطريق»، أن يتمّ إخلاء الشوارع والطرقات من المارة، وإيقاف حركتهم ومسيرهم عندما يمرُّ موكب الحكَّام والرؤساء فيها.

الحقيقة، أن موضوع تواضع الحكَّام يعتبر أحد أهم صور العدالة وعناوين العلاقة ما بين الحاكم والمحكوم. فالعلاقة هنا طردية؛ فكلما زاد تواضع الحاكم، كَسب احترام الناس، وازداد قرباً منهم، وصاروا يسمعون له. فـ «من يتكلم دون تواضع سيجد صعوبةً في جعل كلماته مسموعة»، كما كان يقول الفيلسوف الصيني القديم كونفوشيوس.

وقد قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: «وَمَا أَرسلنا قبلَكَ مِنَ المرسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكلونَ الطَّعامَ ويمشُونَ في الأَسواقِ وجعلنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا» (الفرقان، 20). والباري يقول بأن مَنْ بعثته من الرسل، هم يأكلون ويتبضَّعون ويتكسَّبون مثلكم «وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنَافٍ لِحَالِهِمْ وَمَنْصِبهمْ» كما قال ابن كثير في تفسيره.

من أكثر الأشياء حساسيةً عند الإنسان هو أن يرى ويعيش التمييز والمَيْزِيَّة. أن لا يجد نفسه إلاَّ وهو محاطٌ بكَمٍّ هائل من المراتب والمنازل، تفصله عن أبناء الذوات، الذين لا يأكلون كما يأكل، ولا يشربون كما يشرب، ولا يلبسون كما يلبس، ولا يشعرون بما يشعر، ولا يتعبون كما يتعب هو ولا يسيرون موضع ما يسير. ويأتي على رأس أولئك الحكَّام ومسلكهم المعيشي مع رعيَّتِهِم.

فكلما ابتعد الحاكم عن ناسه ابتعد الناس عنه. وكلما أبعَدَ مشاعره عن أفراحهم وأتراحهم، لم يفرحوا له، ولم يحزنوا من أجله. وكلما أظهَرَ على نفسه بَطر النعمة، وتجلَّل بعظيم الملبس والدِّعة والأُنس، دون اكتراثٍ لرعيته وما يُعانيه أضعفهم حالاً، حنقوا عليه، ولم يعتبروه يوماً منهم. والعكس صحيح تماماً عندما يفعل خلاف ذلك، فـ «قلوبُ الرعيَّة خزائنُ راعِيها، فما أودَعها من عدلٍ أو جورٍ وَجَدَه فيها»، مثلما قال الإمام علي بن أبي طالب.

بالتأكيد، فنحن لا نعني بتواضع الحكَّام أن يتواضعوا أمام الكاميرات فقط، كي يُقال عنهم أنهم متواضعون، فذلك لن يجلب لهم حباً من أحد، بل بالعكس، سيُكرِّس بعدهم عن رعيتهم، وسيعطي هؤلاء قدراً أكبر من اليقين، بأن مَنْ يحكمهم ينافقهم ويخدعهم، ليرسل رسالةً إلى غيرهم باعتبارها حملة علاقات عامة، ليس لها علاقة بحاجات الناس. يجب أن يأتيهم كواحد منهم لا كمتأمِّر عليهم، فتهفو إليه القلوب.

لقد رأيتُ في بعض الدول، أن الحاكم يجلس قرفصاء المجلس على حصيرة رُمِّلَت بالخيوط، مع أشدِّ الناس بساطةً، أو يجلس على مقاعد خشبية متواضعة جداً كما يجلس أقلهم حظاً في دنياه، ليس في قصر أو دار، بل في سَيْحٍ وأمام الجميع، لابساً مثل ملبسهم، لا يستغرق في بروتوكولات ولا يحجبه عنهم أحد، ويستمع إليهم كأنه مسئولٌ أمامهم.

لقد أثبتت التجارب، أن نزول الحاكم إلى حيث أقلّ الناس مرتبة، يعطيه حقيقة مشهد رعيّته كما هو دون تدليسٍ من البطانة، التي عادةً ما تُضلِّله ولا تعطيه صحيح ما يجري حتى في مشهد المكان الذي يزوره الحاكم عبر تنميقه وتجهيزه. فهؤلاء المتزلفون لا يريدون خيراً بأحد، وكما قال بعض شيوخ بني أمية ومحصليهم عندما سُئِلوا عن سبب زوال حكمهم لبني العباس قالوا: «وَثِقنا بوزرائِنا فآثروا مرافِقَهُم على منافعنا، وأمضوا أموراً دوننا أخفوا علمها عنا»، كما ذكر المسعودي في مروجه، وهي عِظَة للجميع.

وقد سَرَدَ المستطرف الجديد، كيف كان أفراد الحاشية، يعظمون الحكام بطريقة انتهازية، كي يجعلوا بينهم وبين الناس حائلاً، وكي يُمايزوهم عمداً. فقد كان يحيى البرمكي يقول: سؤالُ الملوكِ عن حالها سَجِيَّة النَّوْكَي (الحمقى). فإذا أردتَ أن تقول: كيف أصبحَ الأمير، فقل: صَبَّحَ الله الأميرَ بالنِّعمةِ والكرامة. وإذا كانَ عليلاً فأردتَ أن تسأله عن حالِهِ فقل: أنزَلَ الله على الأمير الشفاء والرَّحمة. فإن الملوكَ لا تُسأَل ولا تُشَمَّت، ولا تُكَيَّف.

أمثال هؤلاء (وما قبلهم وما بعدهم ضمن هذا النمط)، يشكلون خطراً على علاقة الحاكم بالمحكوم، ويُنمُّون بذرة الكِبْر عنده. وهو ما جعل ابن عساكر في «تاريخ دمشق» يذكر حادثة لافتة، وهي أن الفقيه عامر الشعبي، كان يُجالِس أحد خلفاء الأمويين، فَسَمعَ منه حديثاً فقال له: أكتُبْنِِيْه يا أمير المؤمنين. فقال له: نحن معاشر الخلفاء لا نُكَتِّب. وذَكَرَ يوماً رجلاً فكَنَّاهُ فقال له: نحن معاشر الخلفاء لا تُكَنَّى الناسُ في مجالسنا. ودخَلَ عليه الأخطلُ مرةً فدعا له بكرسي. فقال له الشعبي: مَنْ هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال له: نحن الخلفاء لا نُسأل.

في كل الأحوال، هذه كلمة نكتبها محبة وطمعاً في قيام عالم أفضل، يعيش فيه الناس على قدرٍ كبيرٍ من المساواة، ورفض العيش في غيتوات وهمية، لا تؤسس إلاّ إلى عالمٍ كاذب، لا تظهر فيه حقائق الأشياء.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4191 - الأربعاء 26 فبراير 2014م الموافق 26 ربيع الثاني 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 16 | 2:58 م

      مقال رائع

      تسلم

    • زائر 15 | 1:52 م

      مختصر المقال في بعض من الآية الكريمة..

      وقد قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: ï´؟ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ï´¾ (آل عمران: ظ،ظ¥ظ©) صدق الله العلي العظيم.

    • زائر 14 | 1:50 م

      ؟؟؟

      إنَّ الرحمة في قلب الحُكًام مؤشر على اتصاله بالله عز وجل ، فأبعدُ قلب عن الله عز وجل هو القلب القاسي .

    • زائر 13 | 12:49 م

      ذكرتني بفلم طباخ الريس

      عندما حاول الممثل تلميع صورة الريس ، وهو مكشوف عند المصريين وما تقدر تقص على الناس بفبركة ان الريس يتلمس حاجات الناس بنفسه بينما كان هو وبطانته هم من اسغلو الناس طيلة ثلاثين سنه .

    • زائر 10 | 8:34 ص

      تواضع واجد مطلبك عالى

      يل للخوه شكرأ على المقال الرائع الحكام اول يحكموا مثل البشر يعدلوا ويواسون بين الرعيه بعدين خلهم يتواضعون على كيفهم

    • زائر 9 | 4:02 ص

      الرئيس مرسي

      قد يختلف البعض في تقييم أداء الرئيس مرسي و حكومته و في صحة خطفه و عزله لكني أظن الأغلبية ستتفق أنه كان الأقرب قي تاريخنا الحديث إلى ما نطمح إليه من ر~يس عربي متواضع شريف يستمع و يريد المساعدة. سنة قصيرة رأينا فيها ما كنا نود أن يتصف به العديد من الحكام و المسئولين العرب من أخلاق و دين. ندعو الله أن لا تخلوا بلاد المسلمين من القادة المتقين الصالحين الذين يخافون الله فيما إبتلاهم به من مسئوليات.

    • زائر 11 زائر 9 | 8:37 ص

      يا أخى

      تبى تكحلها عميتها

    • زائر 8 | 3:31 ص

      من التصريح إلى التسريح من اليونان بلا عنوان

      يقال من لا يأكل لا يعمل لكن من المنظمات منظمة العفو الدوليه ومن المنظمات منظمة العمل الدول التي كشفت أن لا وجود لشواغر أو وظائف للعرب الحكام! يعني بدعه وكل بدعه ضلاله. أليس كذلك؟ وهل عالم اليوم غير واقعي أو بلا وعي بلا قيمه للإنسان أو لبعضهم لا يوجد تقدير بينما قله لهم إهتمام خاص بينما الأغلبيه مهمشه وبلا حقوق إنسان؟

    • زائر 5 | 1:38 ص

      مقال ممتاز

      التواضع يفيد الكل ليس فقط الحكام حتى المدير مع الموظفين او اي انسان عادي.

    • زائر 4 | 12:49 ص

      متابع

      قال الامام علي (ع) : انّ الله فَرَض على أئمّة الحقّ أن يُقَدِّروا أنفسَهُم بضَعَفةِ الناس؛ كيلا يَتَبيَّغَ بالفقيرِ فَقرُه . . . . . و قال ( ع ) : واعلَمْ أنّه ليس شيءٌ بأدعى إلى حُسنِ ظنِّ راعٍ برعيّتِه مِن إحسانِه إليهم، وتخفيفهِ المؤوناتِ عليهم، وتَرْكِ استِكراهه إيّاهم على ما ليس له قِبَلَهم

    • زائر 3 | 12:06 ص

      المختار الثقفي

      الغريب العجيب ان تلك التصرفات لا تأتي من قبل من كانو خير أمة أخرجت للناس وبحسب الاية الكريمة: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) ففيها ذم وتوبيخ لهم.. فيتم تعطيل مصالح شعوب بكاملها لمجرد مرور واحد لا يتعدى اسمه او صفته إلا انه الحاكم بأمره لا بأمر الله.

    • زائر 2 | 11:53 م

      صدقت و المصداق ما يحدث في العالم اليوم

      كلما زاد تواضع الحاكم، كَسب احترام الناس، وازداد قرباً منهم، وصاروا يسمعون له. فـ «من يتكلم دون تواضع سيجد صعوبةً في جعل كلماته مسموعة.

    • زائر 1 | 10:47 م

      تعجبني

      مقال عشرة على عشرة

اقرأ ايضاً