العدد 4207 - الجمعة 14 مارس 2014م الموافق 13 جمادى الأولى 1435هـ

السفر إقامة في قلب الوطن

سوسن دهنيم Sawsan.Dahneem [at] alwasatnews.com

نغادر أوطاننا لنكتشفها أكثر. كأننا ندخلها ونحن خارجها. مصابون بالسفر ونحن في الإقامة. مصابون بالإقامة ونحن في السفر. لا شيء يعادل أن نكون على ارتباط والتحام بأوطاننا. وطننا ليس الأرض والسماء والطبيعة فيه. إنه الوطن/ البشر. بسطاؤهم خصوصاً، أولئك الذين لا يجف ماء الحكمة فيهم.

يعلّمنا السفر أن نتمعّن حال أوطاننا ونحن خارج دائرته في سفر معرفة أو عمل أو طلب رزق أو تقديم صورة عنه هناك في تجمّعات بشرية جاءت لتفعل شعراً لا أن تقوله فحسب. تفعله بمعنى أن يكون صادراً عن أرواح لا عن ذاكرة ومخزون لغوي. الوطن هنا يكون أنيقاً أكثر بالشعر.

يعلّمنا النأي المؤقت أن نكون دائمي الالتصاق بتربة الأرض التي ننتمي إليها. أن نخاف، نتوجس، نسهر، نحرص على أن تكون أوطاننا في أفضل حالاتها، وأجمل صورها.

في أذربيجان حيث أنا الآن، يمكن لأي منا أن يلتقط ما يناسبه من ملامح وطنه. في أوطان الدنيا جميعاً ثمة ملمح أو صورة تأخذ بيدك تذكيراً بالمكان الذي جئت منه وتنتمي إليه.

للتاريخ هنا رائحة لا تُنسى، تماماً كما لوطني تاريخ لا تنسى رائحته. مقيمة حيث نقيم، وتلوّح بالمضيء والنقيض أيضاً؛ لكن الأرواح تظل مسكونة بالمضيء ولو كان شحيحاً، من دون أن تنسى المقابل له.

للحاضر هنا حركة أيضاً وروح وثّابة، تذكّرنا بحاضر تركناه بشكل مؤقت ونحن نلوذ بالشعر في أقصى بقاع الأرض. علّنا نشفى ولو قليلاً. هل يُشفي الشعر؟ كثيراً ما يفعل ذلك، وكثيراً ما يفشل أيضاً. المهم أن له سيرة في الشفاء.

وفي سفرنا تنشيط للذاكرة. الذاكرة التي ظلت مرتهنة للمتكرر من جمود الحياة من حولنا، أو تكرار فعلها الذي لا ينقطع. التكرار بمعنى الإقامة في السأم والضجر، والفرح الذي يكتفي بالتلويح لك كالعابر الغريب؛ لكنه يظل فرحاً ولو بملامح نكاد لا نراها.

وفي السفر قوة. قوة لأرواحنا التي تكاد تذبل. لعيوننا المنذورة للماء الأبيض، ذلك الذي يحول بينك وبين ألوان الفرح والجمال في أرض الله، والبشر في إقبالهم على الحياة باتزان وحكمة وحب.

الإقامة تدفعنا دفعاً إلى الذبول وربما الشيخوخة المبكرة. السفر شباب. في الإقامة استدعاء وتراكم لضجر متاح وتحت الطلب. الفرح والحيوية ليستا كذلك. إنها من صنع الإنسان، من أعصابه وقدرته على التحمل ومواجهة الحياة بحلوها ومرّها.

نريد أن نقيم كلما صنعنا الفرح ووزعنا حصصه اللائقة على الناس من حولنا وخصوصاً الذين نحب. نلوذ بالسفر حين يشح ذلك الفرح، أو لأننا نريد أن نكتشفه في بلاد الله الواسعة التي لا يخلو منها. نتزوّد بالكثير منه، نغترف ما نستطيع لننسجم مع أنفسنا أولاً والعالم من حولنا ثانياً.

وفي السفر كأننا نعود إلى الوطن الذي نحب، ونتخيل ونشتهي أن تكون صورته وروحه، من صورتنا وارواحنا، وقدرتنا على الإقامة فيه سفراً والسفر فيه إقامة.

إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"

العدد 4207 - الجمعة 14 مارس 2014م الموافق 13 جمادى الأولى 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً