العدد 4227 - الخميس 03 أبريل 2014م الموافق 03 جمادى الآخرة 1435هـ

الصراع على أوكرانيا... انعطافة حادة بالعلاقات الدولية

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

من الصعب قراءة التطورات الأخيرة في أوكرانيا، التي بلغت حتى هذه اللحظة، حد انفصال شبه جزيرة القرم عنها، والتحاقها مجدداً بروسيا الاتحادية، بمعزل عن المحاولات الطموحة للرئيس فلاديمير بوتين، في إعادة حضور بلاده، قوة كبرى ولاعباً رئيسياً في صناعة السياسات الدولية. وقد بدأت مسيرة العودة هذه منذ العام 2008، حين وقفت روسيا موقفاً حازماً في الأزمة الجورجية، أجبرت من خلاله القوى الموالية للغرب على التراجع، مهدّدةً باستخدام القوة العسكرية، ومقرنةً القول بالفعل للحيلولة دون ارتباط جورجيا بالغرب.

وكان الموقف الروسي من الأحداث في سورية، هو ترجمة أخرى، لجدية بوتين في أخذ بلاده مكانتها الدولية، ليس فقط كشريك في صنع القرار الدولي، للولايات المتحدة وحلفائها في الغرب، ولكن كمنافس لهذه القوى. وذلك ينسجم تماماً مع التاريخ الروسي المعاصر، بما في ذلك الحقبة القيصرية. فروسيا كانت دائماً تعبر عن حضورها في المسرح الدولي، من خلال التنافس مع الغرب وليس بالعلاقات التكاملية معه، باستثناءات نادرة فرضتها طبيعة اللحظة، ولسنوات محدودة، كما في الحرب العالمية الثانية، حيث وجد الاتحاد السوفياتي نفسه، مجبراً على الالتحاق بالحلفاء، لإلحاق الهزيمة بالنازية .

بروز روسيا بقوة على المسرح الدولي، كقوة يحسب حسابها، أو انكفاؤها بالتاريخ المعاصر، ظل دائماً مؤشراً على انبثاق نظام عالمي جديد. لقد كان الاتحاد السوفياتي عنصراً نشطاً، في تأسيس عصبة الأمم، التي دشنت نظاماً دولياً جديداً آنذاك، قام على أساس تعدد القطبية، والتحضير لإزاحة الاستعمار التقليدي. وتزامن ذلك مع حضور واضح للسوفيات في نصرة حركات التحرر الوطني، للتحرر من ربقة الاستعمار وتحقيق الاستقلال، الذي كان من أبرز ملامح القرن العشرين.

وكان الحضور الروسي، ممثلاً في الاتحاد السوفياتي، في صنع القرارات الأممية، أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها أساسياً، حيث تقاسم حيازة عناصر القوة، مع غريمه اليانكي الأميركي، وأسهم في تأسيس هيئة الأمم المتحدة. وبقي القطب الآخر، في الثنائية القطبية، التي طبعت السياسة الدولية، حتى سقوطه الدرامي في مطلع التسعينات من القرن الماضي.

كان سقوط الاتحاد السوفياتي إيذاناً ببروز نظام دولي جديد، مستند إلى الأحادية القطبية. وهي فترة نشاز في تاريخ الدول والإمبراطوريات، حيث القاعدة المألوفة أن تنتزع الدول الكبرى مواقعها، وفقاً لإمكاناتها وقدراتها العسكرية والاقتصادية والسياسية. ولم يكن لهذه الحقبة أن تستمر طويلاً، طالما أن القانون الأزلي الذي يحكم العلاقات الدولية، هو صراع الإرادات، وليس التجانس والتكامل، فكل قوة كبرى، تحرص على توسيع دائرة مصالحها ونفوذها على كل الصعد، وإن بطرق الهيمنة، وجبروت القوة.

ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، هو خطوة طبيعية، إذا ما وضع في الاعتبار تاريخ هذه المنطقة، وعلاقة روسيا التاريخية والقومية بها وبشعبها الذي ينطق أغلبيته اللغة الروسية. وكان يمكن أن تتم بسلام ومن دون ضجيج، لو ضمت للجمهوريات الروسية، لحظة سقوط الاتحاد السوفياتي، لكن الانهيار الذي شهدته روسيا، وتراجعها على كل الصعد، وانسحاب الجمهوريات السوفياتية، الواحدة تلو الأخرى منها، لم تجعل بقاء شبه الجزيرة، آنذاك، ضمن مساحة روسيا المنهكة، أمراً حيوياً واستراتيجياً .

الآن وبعد ثورة الشعب الأوكراني، ومطالبته التوجه نحو الغرب، بدلاً عن الشرق، جاءت اللحظة المناسبة للرئيس بوتين، ليجعل من الثورة عقب إخيل، الذي من خلاله يواصل، كما هي عادته، من خلال الأزمات المتكررة، طموحاته في الحضور بقوة على المسرح الدولي، ليس بصيغة الشريك، ولكن بصيغة المنافس، وبما يليق بتاريخ بلاده، يدعمه في ذلك استفتاء شعبي بنتائج ساحقة من قبل شعب الجزيرة، ويسنده تاريخ من الخروقات الغربية المماثلة، ليس أقلها ما حدث من تفتيت للسودان، وتأسيس دولة في جنوبه، وأيضاً تفكيك جمهوريات يوغسلافيا الاتحادية، والعنوان الأبرز في التفتيت هو استقلال كوسوفو.

ضم شبه القرم إلى روسيا، هو خطوة أخرى، على طريق صياغة نظام دولي جديد، تستعيد من خلاله روسيا الاتحادية مكانتها. وهو خطوةٌ على صغر حجمها، فإنها تمثل شهادة الوفاة للنظام الدولي الذي ساد منذ مطالع التسعينات من القرن الماضي. وربما يبدو مبكراً الآن القول، إن النظام الجديد لن يكون متعدد القطبية فقط، بل إنه سوف يقسم العالم، إلى شطرين، يبدوان متكافئين في قوتهما العسكرية والاقتصادية. شطر شرقي قوامه روسيا والصين والهند وبقية منظومة «البريكس»، وشطر غربي، تقوده الولايات المتحدة، وحلفاؤها في حلف الناتو. والأقرب أن تنجح كتلة «البريكس» في تنافسها الاقتصادي، في ترجيح كفتها، خلال سنوات قليلة مقبلة، على كفة الشطر الآخر.

هذا الانشطار، في العلاقة بين القوى الدولية المهيمنة، هو ما يجعل الخطوات الروسية المتتابعة، بدءاً من الأزمة الجورجية، إلى أحداث سورية، وأخيراً ما حدث في الأيام الأخيرة من ضم لشبه جزيرة القرم، أقرب إلى استدارةٍ حادةٍ نحو حربٍ باردةٍ جديدة، لن تكون استنساخاً لسابقتها. وما العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على روسيا، وردود الفعل الروسي حيالها، سوى مقدمات هذه الحرب.

العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب، على روسيا، لن تستمر طويلاً على الأرجح، لأن المتضرر منها ليست روسيا وحدها، بل الغرماء أيضاً. فنسبة التبادل الاقتصادي الروسي مع الاتحاد الأوروبي وحده تتجاوز الخمسمئة مليار دولار سنوياً، عدا عن نسبة التداول الاقتصادي الروسي- الأميركي، التي تشكل أرقاماً فلكية بكل المقاييس. ستتضرر المصالح الروسية بالتأكيد.

سوف يجد الروس منافذ، لتجاوز مؤثرات الحصار الاقتصادي الغربي. وفي هذه الحالة، سيكون الغرب بين واقعين أحلاهما مر: إما الاستمرار في حصار روسيا، إلى أمد غير منظور، وقبول ما يلحق من ضرر بالاقتصادات الغربية، مع وعي أن روسيا سوف تتمكن لاحقاً من خلال علاقاتها المتينة بمنظومة دول «البريكس»، من تجاوز تأثيراتها السلبية. والاحتمال الآخر، أن يتراجع الغرب عن قراراته في حصار روسيا اقتصادياً، وعند ذلك يضع الرئيس بوتين نقطة أخرى، في سجل انتصاراته.

وفي كل الأحوال، فإن موازين القوى الدولية لم تعد كسابقها، قبل ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، والأيام المقبلة ستشهد كراً وفراً، ربما تتعدى تأثيراته حدود الجغرافيا الروسية، لتصل إلى بلدان البلطيق، وربما لن يستثنى منها الوطن العربي، وبشكل خاص الصراع الدولي المحتدم على سورية، وسوف لن يطول انتظارنا .

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 4227 - الخميس 03 أبريل 2014م الموافق 03 جمادى الآخرة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً