العدد 4258 - الأحد 04 مايو 2014م الموافق 05 رجب 1435هـ

دَمُ السيدة ماكونفيل

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لا بأس، لو بدأنا بهذه المعادلة الرياضية: إذا كان وزن أيِّ إنسان، هو 85 كيلوغراماً، فإن نسبة الدَّم من ذلك الوزن، هي 6.8 كيلوغرام، ما يعني، أن الدَّم يُشكِّل 8 بالمئة من كتلة جسم البشر، لكن تلك النسبة البسيطة، إذا ما قِيْسَت بأهميتها في أجسامنا، فإنها لن تقل أهمية عن الحياة ذاتها، كون الدم هو التعبير الصحيح لوجودنا أحياء!

فالدَّم، - وبحسب ما جاء في البحوث العلمية - مسئول عن نقل الغذاء والأكسجين والفضلات والهرمونات إلى الخلايا العاملة في الجسم، وهو يتكوَّن من بلازما الدم، الناقلة للماء والأملاح والغذاء، وأيضاً من الخلايا الحمراء الناقلة للأكسجين وثاني أكسيد الكربون، والخلايا البيضاء لمقاومة الفيروسات والصفائح الدموية المتحكِّمة في النزيف.

لذا، فإن الكشف عن الأمراض، سواء المزمنة أو الطارئة فينا عادة ما يأتي من فحوصات الدم المخبرية، لمعرفة المشاكل الصحية في أبداننا، وخصوصاً أنه القادر - كما ذكرنا - على التحكم في نقل الغازات وإنتاج الأجسام المضادة والتحكم في ماء وحرارة الجسم.

ومن جوف تلك الأهمية القصوى للدَّم في أجسامنا، جاء التعبير عنه بـ «محورية علمية وطبية» في مجال الصحة العامة، وبـ «قدسيَّة وحرمة تامة» في المجال الديني، وبـ «حقوق مشدَّدة» في القانون الوضعي، بل إنه صُوِّر في تشخيصات بعض الأمراض النفسية.

في القوانين السماوية، جاء «استيفاء الوليّ حق دم وليه» فسُمِّي وليّ الدم، وهي عبارة غاية في الدلالة، فله الحق أن يعفو أو لا؛ لأن القصاص حق له، بل إنه قد جاء في بعض المدونات الفقهية أن «وليّ الدم مخيّر بين قتل المقرّين بالعمد أجمع، وردّ الفاضل عن دِيَة صاحبهِ وقتل البعض ورد الباقين قدر جنايتهم» كما جاء نصاً.

وربما شاهدنا مواضع كثيرة، لأولياء الدم، حين تطلب منهم المحكمة أو أهل القاتل رأياً أو موقفاً، كعافين أم مُصرِّين على أخذ حقهم، وكيف أن الكلمة الأولى والأخيرة لهم في ذلك، آخرها حادثة الأم الإيرانية (سميرة) التي عَفَت عن قاتل ابنها (عبدالله) في اللحظة الأخيرة من تنفيذ حكم الإعدام عليه، واكتفَت بصفعه على وجهه، وتداولها الإعلام.

هنا، تأتي الرهبة من مسألة الدم، والنظر إليه على أنه حقٌ لا يمكن التعدِّي عليه، فهو لا يسقط مطلقاً حتى مع التقادم، وتبدل الأحوال، فالموقف من «إراقة الدم» دينياً، قانونياً، اجتماعياً، لا تجعل منه سوى قيمة لا يُعادلها شيء، وتكريس ذلك في الوعي العام لدى الناس، وهو أمر فطري، لم تقتصر عليه أمة من دون غيرها.

في يوم الجمعة الماضي، ألقت الشرطة في أيرلندا الشمالية القبض على زعيم الحزب الجمهوري الأيرلندي جيري آدامز للتحقيق معه في قتل سيدة «بروتستانتية» تُدعَى جين ماكونفيل في العام 1972 بعد خطفها من شقتها غرب بلفاست ورميها بالرصاص.

كانت التهمة التي وُجِّهَت للمرأة من خاطفيها هي تقديمها معلومات سرية للجيش البريطاني عن أنشطة الجمهوريين، ليُعثَر على جثتها عند شاطئ في كاونتي لوث بعد أربعة أعوام من حادثة القتل. إذاً، نحن نتحدث الآن عن جريمة مضى عليها 42 عاماً!

جيري آدامز، يعود إليه الفضل، في التوصل إلى اتفاق سلام في العام 1998م بين الحزب الجمهوري الأيرلندي وانجلترا لإنهاء صراع مرير عمره عشرات السنين، وخلَّفَ 3600 قتيل. وربما كان سيموت مثل ذلك العدد أو أكثر لو أن آدامز لم يسعَ في مساعيه، واستمر الصراع على حاله عقوداً ثلاثة أخرى.

إذاً، الكثير ممنون للرجل في جهوده لحقن الدم، لكن ذلك الفضل، لم ينسحب على ضحية واحدة «قد يكون تورَّط في دمها»، فالصراع كمشهد مطلق يتوقد على ضحايا يتناثرون في سديمه، لكن القتل المحدد والموجَّه له شكل «العمديَّة والقصديَّة» الواضحة.

في الحرب العالمية الأولى كان «الصراع المطلق» فيها قد خلَّفَ ثمانية ملايين ونصف المليون قتيل. وفي الحرب العالمية الثانية كان الضحايا قد وصلت أعدادهم إلى سبعين مليون قتيل! وقد سوَّت اتفاقيتا ما بعد الحربيْن ظروف ونتائج الحرب بكلِّيتها، حيث أعتُبِرَ أؤلئك الموتى ضمن صراع منفلت دفع فيه الجميع ثمناً باهظاً، وتمت معالجته.

لكن ذلك الحال، لم ينسحب على ضحايا آخرين سقطوا في الأماكن ذاتها التي حصلت في معارك الحرب العالمية الأولى، وهي قتل مليون ونصف المليون أرمني (الرقم مختَلَف عليه) في مجزرة رهيبة، قيلَ إنها ارتُكِبَت على يد الجيش التركي (العثماني) في مايو/ أيار من العام 1915م كما يجري الاتهام عادة، ويُصرِّح به اللوبي الأرمني في أوروبا منذ تسعة وتسعين عاماً، والسبب، أن صورة القتل هنا كانت موجَّهة ومقصودة بحق عِرق وطائفة مُحدَّدة المعالم من دون سواها.

وقد قدَّمت تركيا قبل أسابيع رسالة تعزية «لأقارب ضحايا المجازر الأرمينية». وهناك أنباء عن أن تركيا ستعيد «الجنسية لأحفاد الذين تم تهجيرهم»، لكن الأرمن يريدون السماح لهم بالعودة إلى أراضيهم شرق تركيا، وفتح الأرشيف العثماني للتدقيق في ممتلكاتهم من أراضٍ ومنازل، وتقديم تركيا اعتذاراً رسمياً (وليس تعزية فقط) بغية تعيين ذكرى سنوية للمجزرة، وتعويض الضحايا بما يقارب الأربعة مليارات دولار في أضعف الحالات.

هنا، آتي إلى قراءة ذلك بكثير من التأمُّل، فإعادة فتح ملف ماكونفيل رغم مضي أزيد من أربعة عقود على مقتلها، وفتح قضايا الأرمن في تركيا رغم مضي قرابة القرن عليها وغيرها من الحوادث، تُنبِّه الجميع لقيمة أرواح البشر، وتعطينا الأمل واليقين، في أن ضحايا الكراهية والعنصرية وأمراء سيُنصَفون، ويُعاقَب الجناة، طال الزمن أم قَصر.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4258 - الأحد 04 مايو 2014م الموافق 05 رجب 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 9:01 ص

      متابع

      عن أحد الحكماء : لا يوجد على الأرض أقوى من ذاكرة المظلوم ، و لا أضعف من ذاكرة الظالم !

    • زائر 5 | 8:55 ص

      متابع

      هذا الانسان الصغير الذي كله عظم ودم ولحم و يتألم بجرح صغير ،كيف سيتحمل عذابا عن تسببه بقتل ملايين الناس ؟ . . . . . مساكيـــــن الطغاة . . . في الدنيا منبوذين محاربين . . . وفي الآخرة معذبين وأي عذاب !!! . . . . والله أحيانا أشفق عليهم . . . أعاذنا الله و إياكم

    • زائر 3 | 12:38 ص

      الاية معكوسة

      في عالمنا العربي الاية معكوسة تماما امراء الحرب يتم تكريمهم و ترشيحهم للرئاسات و المناصب جعجع مثالا

    • زائر 4 زائر 3 | 2:37 ص

      3محاكم

      من يَقتل يُقتل.. ولن ينجوا من القصاص .."بشر القاتل بالقتل ولو بعد حين"..فإن كان القاتل قد نجا من محكمة الدنيا ثم استطاع ان يسكت محكمة الضمير فهو بالتآكيد لن يُفلت من محكمة الآخرة ..ويالها من محكمة

    • زائر 2 | 11:23 م

      بلاء البلاء

      حرمة الدم أصبحت اقل من حرمة الماء في هذا الزمن الذي بات الهمج الرعاع هم الذين يتحكمون في الدين والدنيا

    • زائر 1 | 10:53 م

      صدقت يا استاذ محمد.

      نعم سيحاسبون عما فعلوا بأبناء هذا الشعب البرى .طال الزمان او قصر سيحاسبون.57782

اقرأ ايضاً