العدد 4261 - الأربعاء 07 مايو 2014م الموافق 08 رجب 1435هـ

الإقصائيون وفرص الحل الضائعة

محمود القصاب comments [at] alwasatnews.com

.

تطرقنا في المقال السابق إلى مأزق التسوية السياسية، وأرجعنا ذلك إلى غياب النموذج السياسي الوطني الجامع الذي يمكن أن تتوافر فيه شروط ومعايير العدالة والمساواة ومبدأ تكافؤ الفرص، وقلنا أن هذا النموذج يرتكز على ثلاثة أمور جوهرية، الأول: اعتماد مبدأ «الشعب مصدر السلطات جميعاً» لضمان إدارة الدولة، وفق أسس من العدالة والنزاهة والشفافية؛ الثاني: الأخذ بالصيغة الديمقراطية التعددية التي تحمي الحريات وتوفر الأمن والأمان والاستقرار لجميع المواطنين؛ والثالث: وجود اقتصاد قوي قادر على مقاومة الفساد ومحاسبة المفسدين من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية في دولة مدنية عصرية ومتحضرة.

وحين نعيد التأكيد على مثل هذا النموذج اليوم في ظل الحالة الوطنية الهشة التي تحمل معها مظاهر ومخاطر الفوضى والعنف والانقسام الاجتماعي والمذهبي في بلادنا، إنما يعود ذلك إلى قناعتنا بقدرة هذا النموذج على إخراج البلد من هذه الحالة التي تتداخل فيها الأبعاد السياسية والمذهبية بصورة غير مسبوقة. لذلك تساءلنا في نهاية المقال عن موقف القوى الإقصائية «قوى التفكك» من هذه المرتكزات الثلاثة ومدى قدرتها واستعدادها لجعلها على رأس أجندة أي حوار حقيقي إن كان مقدّراً له أن يُبصِر النور بعد كل هذه المحاولات من التسويف والمماطلة وإفراغه من محتواه.

نقول ذلك ونحن نعلم أن الجميع على وعي تام بأن الصورة ليست ورديةً، بل إنها مع مرور الوقت تزداد قتامة، وأن جدران الوطن تتداعى، والحاضر المثقل بالكثير من المنغصات التي تحاصر الناس تجعل المستقبل غامضاً ومحيّراً وملبداً بالكثير من الأخطار، خصوصاً مع تراجع قيم الوطنية لحساب قيم وأفكار المذهبية. لذلك قلنا مراراً وتكراراً بأنه لا سبيل لوقف هذا التداعي سوى جعل المرتكزات التي أشرنا إليها، في صدارة أولويات ومخرجات أي حوار سياسي، وبدون ذلك ستكون كل الخطوات والجهود المبذولة مجرد عبث، ومصيرها الفشل والغرق في الطوفان الذي ينتظر البلد، إذا ما تعامينا عن هذه القضايا الجوهرية والمصيرية وتعمدنا الهروب من استحقاقاتها وتركنا مصير البلد تقرّره تلك الثلة من الإقصائيين النافخين في نار الفتنة الطائفية التي تقطع أوصال النسيج الاجتماعي، والتي لا هم لها سوى الوقوف في وجه إرادة التغيير والإصلاح الحقيقي، وتسخير كل إمكانياتها وقدراتها من أجل إفشال أية مساعٍ خيّرةٍ ترمي إلى حلّ الأزمة، وإصرارها على اتخاذ مواقف متعنتة، واعتماد منهج الرفض الدائم لكل ما يصدر عن المعارضة الوطنية، واتهام هذه الأخيرة «بالخيانة» و«العمالة» وغيرها من التهم الظالمة، وادعاء احتكار الوطنية!

والواقع أنك عندما تبحث عن أي إنجاز لهذه القوى، أو تبحث عن العقلانية والتفكير الهادئ المنطقي من بين ثنايا خطاباتها ومواقفها منذ اندلاع الأزمة حتى وقتنا الراهن، فإنك لا تجد غير لغة التحريض والتخوين التي تدفع المجتمع إلى مزيد من التوتر والاحتقان السياسي والطائفي، وإشاعة أجواء التطرف والانتقام والكراهية. كما لا تجد غير تلك الادعاءات الفارغة حول «الطهارة السياسية» التي منحها الله لهم دون سواهم من أبناء هذا البلد!

إضافةً إلى إعادة اجترار نفس المزاعم حول «المؤامرة الخارجية» و«المحاولة الانقلابية» التي اشترك فيها الغرب والشرق وكل «شياطين» العالم، والتي «جمعهم الله في ذلك اليوم الموعود من أجل إحباطها وإفشال نوايا أصحابها»... «الخونة» و«العملاء».

بينما كل القيم الإنسانية والشرائع السماوية والأرضية تؤكد أن «الخيانة العظمى» هي التنكر للقيم الإنسانية ولمبادئ العدالة، والدوس على حقوق الإنسان، عبر الوقوف إلى جانب التجاوزات والانتهاكات، وسياسات القهر والتمييز، والقبول بالغبن التاريخي الواقع على إخوانهم في الوطن الذين جعلوا منهم مشروع عدو يجب محاربته وإقصاؤه بكل السبل! كما أن الخيانة هي في القبول بالإجراءات والقرارات التي تجيز الفتك والتنكيل بالقوى الوطنية وبالمواطنين المطالبين بحقوقهم العادلة والمشروعة والدستورية.

إضافةً إلى الدفاع المستميت عن الواقع المثقل بالاستبداد والفساد والإقصاء، وغياب التوزيع العادل للثروات، وتقديم الغطاء السياسي لكل هذه المظالم في الوقت الذي يئن فيه المواطن من الفقر والعوز، وقد خارت قواه، وأصابه الوهن.

كل هذا الواقع المؤلم يقابل من جانب هذه القوى بمواقف غير مبالية، بل ومعيبة سياسياً ووطنياً وأخلاقياً، عندما تغيب عنها أية مسحة إنسانية بلغت حد التعامل «بانتقائية» مقززة، والكيل بمكيالين، حتى مع الدماء التي تسفك من هنا وهناك. وهي حالةٌ تمثّل قمة العنصرية والشوفينية التي تبعث على الاشمئزاز عندما تتجاهل حرمة أية قطرة دم تسيل بغض النظر عن هوية وانتماء صاحبها.

وهذا ما يجعلنا نجزم - دون الخشية من الوقوع في المحظور- بأن هذه القوى ما وجدت إلا لتكون أداةً لتأزيم الوضع وتعقيده، وتكفل مهمة خلط الأوراق على الساحة الوطنية.

إن هدف أي حوار هو إحداث تحولات عميقة وجذرية في شكل العلاقة القائمة بين السلطة والشعب، وتهيئة الساحة الوطنية أمام إعادة التوازن وتعديل الاختلال الحاصل في هذه العلاقة حتى تستقيم أوضاع البلد وتستقر، فالحوار في نهاية المطاف هو عملية «تبادلية» أو تفاوضية يجب أن تبدأ بالإقرار أو الاعتراف بوجود واقع سياسي واجتماعي وأمني يعاني من انحراف وإجحاف غير مبررين. وأولى مهمات الحوار والمتحاورين إصلاح هذا الواقع، ومقاربة كل الملفات التي يعج بها بصورةٍ جادةٍ وحقيقيةٍ، فهل تدرك القوى الإقصائية هذه الحقيقة، وتعمل بالتالي على إعادة النظر في مواقفها، وتوجيه فكرها وسلوكها نحو مصلحة الوطن العليا التي تكمن في تخليص هذا الوطن من أية إجراءات أو سياسات تسلطية؟ أم ستبقى تراوح في مكانها، سادرةً في غيّها، غارقةً في أوهامها وهواجسها المصطنعة، والاستمرار في التعاطي مع الأزمة وتداعياتها بمنطق ذلك الأحمق الذي يحرق سريره في الصباح لأنه لا يدرك أن المساء سوف يأتي.

إقرأ أيضا لـ "محمود القصاب"

العدد 4261 - الأربعاء 07 مايو 2014م الموافق 08 رجب 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً