العدد 4278 - السبت 24 مايو 2014م الموافق 25 رجب 1435هـ

عن العلاقة بين الفقيه والشاه الصفوي

حسن سعيد Hasan.saeed [at] alwasatnews.com

بعد قيام الدولة الصفوية وإعلان التشيع مذهباً رسمّياً، دخلت العلاقة بين الفقيه والشاه/الحاكم مرحلةً جديدةً من مراحل الفقه والفكر السياسي الشيعي، وبرزت الحاجة للإجابة على إشكاليات حقيقية فيما يخص العلاقة بين السلطتين السياسية والدينية.

من تجليات إشكالية العلاقة بين الرجلين يأتي سؤال تحديد رجل الدولة الأول. فمن منظورٍ سياسي مجرد، يبدو الشاه في قمة الهرم، أما المنظور الديني فتبدو الغلبة من خلاله للفقيه. فكيف كانت طبيعة العلاقة بين الفقيه والشاه مع بداية قيام الدولة الصفوية؟

إشكالية العلاقة بين الفقيه والحاكم ليست جديدة. تاريخياً، تولى النبي (ص) السلطتين السياسية والدينية، وتولى الإمام علي (ع)، بحسب المذهب الشيعي، أيضاً السلطتين معاً ما يدل على اتساع الإسلام وشموله لقضايا الحكم والسياسة. بدأت تتضح إشكالية العلاقة بين السلطتين في الدولتين الأموية والعباسية حيث عاش أتباع مذهب أهل البيت في ظل سلطة دينية - بحسب الشيعة - تمثلت في الأئمة (ع)، وسلطة سياسية بحسب الواقع تمثلت في الحكام الأمويين والعباسيين. لم تكن العلاقة بين السلطتين علاقة انسجام وإن تمظهرت أحياناً ببعض المظاهر التي قد توحي بقرب السلطتين، كما حصل مع تنصيب الإمام الرضا (ع) ولياً للعهد في عهد المأمون العباسي. هذا التاريخ من العلاقة غير المنسجمة بين السلطتين كان له أثره على الفكر الشيعي فيما يتعلق بالعلاقة مع الحاكم.

بدا الفقيه في موقع المسئول عن مآلات أتباع المذهب الشيعي. النصوص الدينية بدت ثابتةً ولكن القراءات والظروف التي تحيط بالفقيه متغيرة. قد يختلف هذا الفقيه مع ذاك في قراءة مراد النص وفي قراءة الواقع، ولكن مجرد الاختلاف كان يشي بالقدرة على الحراك. وجد الفقيه نفسه في واقع متغير وهناك حاجةٌ ماسة لفكر سياسي يقوم على دعائم فقهية رصينة، ويتناغم مع الواقع في آن واحد.

صارت بعض الحوادث التاريخية تُستدعى ليؤسس عليها فكر جديد، كقصة علاقة الحسن بمعاوية، وعلاقة الرضا بالمأمون، وقصة علي بن يقطين. كل ذلك لتكون هناك إجابة للسؤال عن كيفية العلاقة مع الحاكم. جاءت الدولة الصفوية لتفتح باباً عريضاً من النقاش الفقهي وإثارة الإشكاليات وطرح الأجوبة، ولتؤسس لعلاقة جديدة بين الفقيه والحاكم/الشاه.

يمكن القول بأن العلاقة بين الشاه والفقيه كانت ضرورة لكليهما. فالدولة الصفوية كانت بحاجة للفقيه الذي يضفي الشرعية على حكمها، ويؤكد ما تدعيه من سعيها لتكون الحاضنة لأتباع المذهب الشيعي. في المقابل، وجد الفقيه في الدولة الصفوية الملاذ الذي من الممكن أن يساهم في رفع معاناة الشيعة وخصوصاً مع الوضع السيء الذي كانوا يعيشونه، ما اضطرهم في كثير من الأحيان، لإخفاء مذهبهم خوفاً من أن يطالهم العقاب.

ومما ساهم في تقوية العلاقة بين الشاه الصفوي والفقيه الشيعي هو موقف الدولة العثمانية من الدولة الصفوية من جهة، وموقفها من الشيعة بشكل عام من جهة أخرى. ففي أوج الصراع بين الدولتين، كانت الدولة العثمانية القوية تحارب بجيشها الدولة الصفوية، وتحارب بفتاواها التشيع نفسه، ولذلك كانت تصدر الفتاوى الدينية التي تبرّر الصدام. بدت الدولة العثمانية وكأنها تواجه الدولة الصفوية والتشيع معاً، وهذا ما وطّد العلاقة بين الشاه والفقيه الذي وجد في هذه الدولة وتقويتها السبيل لحفظ المذهب والتابعين له.

لكن هذه العلاقة لم تكن لتقوم من دون أساس فقهي يبرّر للفقيه العمل في دولة لا يحكمها الإمام المعصوم. فمن المعروف عند الشيعة الإمامية أن المعصوم هو الحاكم الشرعي، وبالتالي فإن العمل مع حاكم غير الإمام يستلزم بعض التنظير، للنظر في المحدّدات والقيود ومساحة العمل المسموح بها من الناحية الشرعية. من هذا المنطلق، أصبحت فترة قيام الدولة الصفوية إحدى فترات تطور الفكر الشيعي الخاص بالعمل مع الحاكم، وذلك بسبب الحاجة لفهم كيفية التعاطي مع الدولة الجديدة.

لفهم العلاقة بين الشاه والفقيه في الدولة الصفوية، هناك حاجةٌ لفهم بعض النقاط. أولاً: إن عمل الفقيه مع الشاه لا يعني بالضرورة أن كل أعمال الشاه مشروعة. فعلى رغم الصلاحيات المتاحة للفقيه في حدود مؤسسته الدينية، إلا أن مدى تأثير هذه الصلاحيات على القرار الخاص بالشاه ومدى استجابة الشاه لأوامر الفقيه مسألة أخرى. وفق حدود شرعية معينة يحق للفقيه، حسب بعض الفقهاء، أن يعمل مع الحاكم الجائر، ولكن عمل الفقيه معه لا يعني أنه لم يعد جائراً.

ثانياً: امتدت الدولة الصفوية لأكثر من 200 عام، وتناوب على حكمها 11 شاهاً صفوياً تميّز بعضهم بالتدين، وتميّز الآخر بالخوض في الدماء وارتكاب المجازر، فلا يمكن والحال هذه أن تكون النظرة إليها واحدة، فقط لأن الفقيه قد عمل في مؤسستها الدينية.

رأي الفقيه يحكمه الواقع المتغير الذي يراه أمامه، وبالتالي قد يتحوّل مديح اليوم لحاكم اليوم، قدحاً غداً لحاكم قادم. يُضاف إلى ذلك، فإن العلاقة بين الشاه والفقيه قد تقوى أحياناً، وقد تضعف أحياناً أخرى لاختلاف هدف كل واحد منهما في فترةٍ ما. فالشاه بعقليته السياسية قد يرى في القرب من الفقيه مصلحةً سياسيةً في وقت ما، ولكنه في الوقت نفسه قد يسعى لإبعاد الفقيه وتقييد صلاحياته لمصلحةٍ سياسية أخرى في وقت آخر. هدف الفقيه حفظ الدين سواءً أكان قريباً من الشاه أم بعيداً عنه، وهدف الشاه حفظ حكمه سواءً أكان قريباً من الفقيه أم بعيداً عنه. الدين ثابت الفقيه، والحكم ثابت الشاه، والعلاقة بين الطرفين قد تتغير بما يحفظ الثابت لكليهما.

بالنسبة للفقيه، كان هناك معطيان. المعطى الأول هو قيام دولة شيعية إثني عشرية لأول مرةٍ في إيران، وإعلانها الاستعداد للتعاون مع الفقيه وتوفير إمكانات الدولة في خدمته ولتحقيق أهدافه، وخصوصاً في تلك الفترة العصيبة على المسلمين الشيعة. عدم استثمار الفقيه لهذه الفرصة كان ربما سيكلّف المذهب وأتباعه الكثير. وتختلف الدولة الصفوية عن غيرها من الدول الشيعية التي قامت قبلها كالدولة الفاطمية مثلاً في كونها إثني عشرية وليست إسماعيلية أو زيدية، وفي كونها دولة غير مرتبطة بدولة أخرى كما كان حال بعض الدول الشيعية السابقة المرتبطة بالدولة العباسية بشكل أو بآخر. لذلك تبدو مساحة عمل الفقيه في الدولة الصفوية أكثر اتساعاً من سابقاتها.

أما المعطى الآخر، فهو أن بعض الفقهاء الشيعة تقلّدوا بعض المناصب في حكومات سابقة، وكان لديهم من الحجج الشرعية ما قد يُبنى عليه ليوفّر الغطاء الشرعي للعمل مع الدولة الصفوية التي يحكمها غير المعصوم. فهناك من علماء الشيعة الكبار من كان يجيز العمل مع الحاكم الجائر وفق محددات معينة كالسيد المرتضى والشيخ الطوسي والشيخ المفيد. وهناك من تقلد بعض المناصب كابن طاووس ونصير الدين الطوسي والعلامة الحلي.

يمكن القول إذاً ان ارتباط الفقيه بالدولة الصفوية كان أساسه السعي للاستفادة من هذه الدولة في خدمة الدين والحفاظ على المذهب الإسلامي الشيعي. وقد يتطلب هذا الهدف الاختلاف مع الشاه نفسه في بعض الأحيان، وهذا ما سوف يتضح عند الحديث عن دور الشيخ علي الكركي وعلاقته بالشاه في المقال القادم.

إقرأ أيضا لـ "حسن سعيد"

العدد 4278 - السبت 24 مايو 2014م الموافق 25 رجب 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 5:38 ص

      استمر في هذه الأطروحات

      مقالك جيد ويانع، ولكن الموقف الذي اتخده فقهاء الدولة الصفوية ليس استثنائياً وإنما هو الأصل كما يرى العلماء المعاصرين للدولة الصفوية، بوركت.

    • زائر 7 | 5:30 ص

      بارك الله فيك

      مقالات متوازنة و غزيرة بالمعلومات التاريخية، أكمل السلسلة و نحن لك من الشاكرين.

    • زائر 6 | 1:36 ص

      احسنت

      جزاك الله خير

    • زائر 5 | 1:25 ص

      بيان للمنهج.

      في رأيي لو أن الكاتب بين منهجه في البداية قبل الكتابة لكان أفضل. كما لو أقام بعض الأدلة على بعض المقولات سيكون أفضل كاستدعاء بعض الشواهد التاريخية و مناقشتها حتى يدعم رأيه أو ذكر بعض مقولات علماء سابقين عايشوا تلك الفترة. وفقك الله لكل خير.

    • زائر 4 | 12:12 ص

      معلومة

      الشاه اسماعيل الصفوي، مؤسس الصفوية كان الوحيد الذي جمع المنصب السياسي و الفقهي معا. خلفه الشاه طهماسب جاء بالشيخ بهائي العاملي من جنوب لبنان ليكون فقيه الدولة. لكن الشيخ لم يعجبه الوضع. بعد سفره للحج استقر في البحرين و توفي فيها و دفن في مقبرة المصلي.

    • زائر 2 | 11:57 م

      موضوع جميل يوضح للبعض ماهية العلاقة بين الفقيه والسلطة اي سلطة

      شكرًا على هذا الموضوع الجميل البسيط في عرضه ونتمنى ان يقرأ ممن يحسب نفسه مثقف وهو لا يعرف من هو مؤسس الدولة الصفوية وكيف أنشئت ومن هو مؤسسها و و و كثيرة

    • زائر 1 | 11:56 م

      عن العلاقة بين الفقيه والشاه الصفوي

      شكرا على المقال ونتمنى منك ان تتوسع في نقل الامثلة لتكون الصورة اوضح

اقرأ ايضاً