العدد 4303 - الأربعاء 18 يونيو 2014م الموافق 20 شعبان 1435هـ

المواطنة الفاعلة

 

محاضرة ألقيت بجامع النبي (ص) – المالكية، بتاريخ 1 مايو 2002

 

عندما تنعدم المواطنة الفاعلة في أي مجتمع فستجد انتشارا لانتهاكات حقوق الإنسان، وسينتشر عدم التسامح بين الحكومة والشعب وبين أفراد الشعب ذاتهم، وستنتشر اللامبالاة وستنعدم المسئولية، وسينتشر الفساد الإداري والسياسي وسينعدم حكم القانون.. إلخ. والموضوع الذي نتطرق إليه هذه الأمسية يتعلق بالمواطنة التي تمنع هذه الظواهر.


المواطنة بمفهومها الحديث لها أساس فلسفي قديم، ارتبطت بمفهوم الدولة – المدنية التي تكونت في اليونان بعدة قرون قبل الميلاد. والمواطنة ترجع إلى مفهوم اليونان حول الـ POLIS وهي الوحدة الأساسية في التكوين السياسي، والمقصود بها "المدينة" وعلاقات الأفراد الذين يعيشون في تلك المدينة بين بعضهم الآخر.


كما أن مفهوم "الوطن" الذي ورد في الفقه الإسلامي كان يتحدث عن المدينة أو عن المنطقة التي يبلغ محيطها قرابة 44 كيلومتر، وعلى هذا الأساس اعتبر من يقطع هذه المسافة قد خرج من وطنه وتتحول بذلك صلاته إلى "القصر".


وقد عرف الشيخ ميثم البحراني المتوفي في العام 1299م السياسة في كتابه "مائة كلمة للإمام علي عليه السلام" بأنها الفعل الذي "يكون عائداً إلى الإنسان مع عامة الخلق"، وأضاف أن الحكمة السياسية هي "كيفية المشاركة فيما بين أشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح الأبدان ومصالح بقاء الإنسان". وقد ربط الشيخ ميثم بين السياسة والمدينة بقوله بأن للسياسة فرع هام يسمى "الحكمة المدنية" وعرف هذه الحكمة بـ "كيفية بناء المدينة وترتيب أهلها".


إلا أن المفهوم الحديث للمواطنة قد تطور قبل قرابة مائتين سنة عندما تشكلت الدول القومية الأوروبية. فالدولة القومية تعتبر لنفسها السيادة المطلقة داخل حدودها، وأن أوامرها نافذة على كل من يقطن داخل تلك الحدود الجغرافية. ومن أجل منع استبداد الدولة وسلطاتها فقد نشأت فكرة المواطن الذي يمتلك الحقوق غير القابلة للأخذ أو الاعتداء عليها من قبل الدولة. فهذه الحقوق هي حقوق مدنية تتعلق بالمساواة مع الآخرين وحقوق سياسية تتعلق بالمشاركة في اتخاذ القرار السياسي، وحقوق جماعية ترتبط بالشئون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.


وقد تطورت منظومة الحقوق على المستوى الدولي من خلال معاهدتين صادرتين عن الأمم المتحدة وهما (العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية السياسية) و(العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية).


ما تشير إليه النقاط المذكورة أعلاه هو اعتبار الموازنة بين سلطات الدولة وحقوق المواطن أساسا للمجتمعات المتطورة، بحيث لو انعدمت حقوق المواطن أصبحت الدولة مستبدة وتخلف بسبب ذلك المجتمع.


والمواطنة بهذا المفهوم تختلف عن الأخوة الدينية. فالمسلم أخ المسلم ويرتبط معه بروابط معنوية فوق الزمان والمكان، أما المواطنة فهي رابطة التعايش السلمي بين أفراد يعيشون في زمان معين ومكان معين (أي جغرافية محددة). والمواطنة لا تتناقض مع المبدأ الإسلامي لأن العلاقة الدينية تعزز الروابط الزمنية أيضاً، ولا خلاف في ارتباط الإنسان المسلم مع غير المسلم ضمن إطار اجتماعي يتم الاتفاق عليه تحت عنوان المواطنة. فهذا ما تجده أيضاً في ما فعله الرسول (ص) عندما هاجر للمدينة المنورة وعقد اتفاقاً مع المسلمين من المهاجرين والأنصار ومع القبائل اليهودية ومع المشركين. اتفق معهم على حماية بعضهم الآخر من أي اعتداء خارجي قد يقع على المدينة واتفق معهم على حرية كل فئة في معتقداتها، ولكن اليهود خالفوا العهد وتعانوا مع مشركي المدينة ومشركي مكة ضد المسلمين فانتهى ذلك الاتفاق الذي أطلق عليه اسم "صحيفة المدينة". ونلاحظ أن الرسول (ص) وصف المسلمين واليهود وغيرهم ممن دخلوا في الاتفاقية بأنهم أمة من دون الناس بمعنى أنهم جماعة لديها اتفاق يخصها دون غيرها وهذا يتطابق مع مفهوم المواطنة القائم على اتفاق دستوري بين أفراد المجتمع الواحد.


المواطنة الفاعلة تعتمد أذن على الاتفاق والإجماع القائم على أساس التفاهم من أجل تحقيق السلم الأهلي وضمان الحقوق الفردية والجماعية. والمواطنة تتطلب الاعتراف بالقواعد والدستور الذي يقوم عليه الحكم والالتزام به من قبل الحاكم والمحكوم.


والمواطنة أساسا شعور وجداني بالارتباط بالأرض وبأفراد المجتمع الآخرين الساكنين على تلك الأرض. وهذا الارتباط الوجداني تترجمه مجموعة من القيم الاجتماعية التي تربط الناس ببعضهم الآخر وتحضهم على فعل الخير من أجل الصالح العام.


هذه المواطنة لا تتحقق إلا إذا علم المواطن حقوقه كاملة سواء كانت هذه الحقوق مدنية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية. وبعد أن يتعلم هذه الحقوق فإن عليه أن يمارسها ويسعى لتحقيقها وعدم التنازل عنها، لأن الحق يؤخذ ولا يعطى. المواطنة هي استشعار المسئولية وتحمل الأمانة والقيام بكل ما يتطلبه الصالح العام من أجل حفظ الكرامة الإنسانية.


تستلزم المواطنة الفاعلة توافر صفات أساسية في المواطنة تجعل منه شخصية مؤثرة في الحياة العامة. والتأثير في الحياة العامة هو القدرة على المشاركة في التشريع واتخاذ القرارات.


أن هذه المواطنة الفاعلة تقوم على أساس الكفاءة وقدرة المواطن على فهم طبيعة المجتمع وكيفية التعاون والتنافس وحل الخلافات على أساس عقلانية تهدف لخدمة الصالح العام ودعم الترابط الاجتماعي.

 

 

 

 

العدد 4303 - الأربعاء 18 يونيو 2014م الموافق 20 شعبان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً