العدد 4303 - الأربعاء 18 يونيو 2014م الموافق 20 شعبان 1435هـ

حول الحس الوطني وبيئة العمل

كلمة القيت في ندوة بمعهد البحرين للتدريب بتاريخ 21/1/2002م



لعل كثير من الناس أعتقد أنه في عصر المعلومات والكمبيوتر فأن دور الإنسان سيتضاءل ويتراجع إلى درجات خطيرة قد تؤدي لمشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية لا يستطيع الإنسان تحملها. إلا أن من قالوا بهذا ثبت خطأ ما اعتقدوا، وذلك لأن التكنولوجيا لا تصنع الإنسان، بل أن الإنسان هو الذي صنعها لتسهيل حياته، ولا يمكن للتكنولوجيا بذلك أن تكون إلا أداة يستخدمها الانسان من أجل سعادته إن شاء، أو تعاسته أن شاء ذلك أيضاً.


لعل الكمبيوتر هو أفضل أداة تحليلية اخترعها الإنسان، وهو قمة ما توصل له الإبداع الإنساني في السنوات الماضية. فلقد أصر فلاسفة كثيرون أن أي "مفهوم" نافع لا بد وأن يتم تفسيره رياضياً، أي يتم تحويله إلى معادلات راضية. ثم جاء الكمبيوتر ومعه تحليل المفاهيم إلى أرقام (واحد وصفر)، وهذا ما أعطانا الحياة الرقمية (اقتصاد رقمي، اتصالات رقمية، إلخ).


نعم أن المعلومات يمكن تحويلها إلى واحد وصفر، وبالتالي يمكن تحليلها، وكل شيء يمكن تحليله فانه يعتمد على أجزاء ميكانيكية يمكن تفريقها وثم تجميعها، وأن هذه الأجزاء (الرقمية أو الميكانيكية) تساوي مجموعها (بمعنى أن الكل يتكون من الأجزاء التي يتمكن الإنسان من صلها عن بعضها الآخر). إلا أن الإنسان ليس مجموعة أرقام وليس مجموعة معلومات وليس مجموعة أحماض امينية أو جينات.. الإنسان أكبر من ذلك بكثير، فالإمام علي (ع) يقول "أترعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر".


إن الحياة الإنسانية ليس نتيجة جمع أجزاء جسدية وتركيبها، أنها بالإضافة إلى النظام البيولوجي المادي، هي أيضاً حياة ملؤها التفكير والإحساس، العقل والوجدان.. لقد كان ديكارت، الفيلسوف الفرنسي، يقول: "أنا أفكر إذا أنا موجود".. إن عنوان الحياة الإنسانية هو التفكير، هو العقل، هو وجهة النظر التي ينتج عنها "حس" معين.


الجميع يتحدث هذه الأيام عن عصر المعلومات، ولكن كثير منا يغفل إثر هذا العصر على نمط التفكير ونمط الإحساس والمشاعر لدى مختلف أنواع البشر.


إن توفر المعلومات عبر الحدود ودون حدود يعني أننا بحاجة لمن يسبح في محيط من المعلومات، أننا بحاجة للإنسان المتعلم، العارف لعصره ومتطلبات عصره.


إننا نعيش في عصر تحركه المعرفة، وهذه المعرفة ليست الكمبيوتر، وإنما هي الإنسان الذي يسيطر على الكمبيوتر ويخترق الأرقام والتحليلات التي يوفرها الكمبيوتر، وهو الإنسان الذي يخلق لنفسه تصور معين حول الحياة وحول دوره في هذه الحياة.


الإنسان "المتعلم" هو الوحيد القادر على القيام بدور قيادي في عالم اليوم، وهو الذي يستطيع أن يوفر لنفسه وعياله لقمة العيش الكريمة. ولذا فإن المؤسسة التعليمية مطالبة أن تقدم لنا المادة العلمية والعملية التي تخلق القيادات في المجتمع، والمادة التي تمكن من يستلهمها في الحصول على رزقه بكرامة.. لا نريد التعليم الذي يعلمنا فقط كيف نحصل على الرزق، فلربما كان الإنسان همجياً ولكنه أيضاً ذكيا في مجال تخصصه، ولربما كان شريراً يضر الآخرين رغم خبرته وقدرته المهنية، فمن هو الذي اخترع وسائل دمار الإنسان غير الإنسان نفسه؟


ومن أجل ذلك فإننا بحاجة للقيم التي تخلق لنا الإنسان النافع لغيره، "فالخلق عيال الله وأحبكم لله أنفعكم لعياله"، كما جاء في الحديث الشريف.. والإنسان المخلص – بطبيعة الحال – يسعى لخدمة ذاته (ملعون من ألقى كله على الناس)، ويسعى بعد ذلك لخدمة عائلته (الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله) ... (من بات كالاً في طلب الحلال بات مغفوراً له).. فالإسلام هو الذي يحثنا على الاهتمام بالجار "الجار ثم الدار".
وهكذا فإن الإنسان الصالح في ديننا هو النافع لنفسه، لعياله، لجيرانه.. للناس أجمعين.. وهذا هو منطلق إحساسنا الوطني... إننا نخدم وطننا لأننا بذلك نكون قد خدمنا أنفسنا وأهلنا وجيراننا وبقية الناس القريبين منا...

بيئة العمل المعاصر


إن عالمنا المعاصر هو عالم متعدد الجوانب، متعدد في أفكاره، في سياساته، في مناهجه، وفي مهنة أيضاً. وهذا التعدد ليس إلا تأكيداً لطبيعة الإنسان تلك الطبيعة التي أكدها القرآن الكريم.
"إن سعيكم لشتى"، "قل كل يعمل على شاكلته..."


إذا كانت التعددية في عالم السياسة اليوم تعني تعدد الأحزاب المتنافسة في اللعبة السياسية، فإن التعددية في عالم المال والاقتصاد هي تعدد التخصصات.. هي تعدد الاهتمامات المهنية.


إننا نعيش في بيئة "متعددة"، تتعدد فيها الاختصاصات والمهارات.. وفي المجتمع التعددي تستلم كل مؤسسة متخصصة مهمة محددة واحدة فقط تركز عليها وتسعى لزيادة فاعليتها تجاهها. فمعهد التدريب (مثلا) لديه مهمة واحدة فقط هي تخريج متدربين لتلبية حاجات سوق العمل... وهكذا كل مؤسسة داخل مجتمعنا المعاصر حالياً تهتم بعمل محدد.


الثقافة المؤسسية


ان كل مؤسسة داخل مجتمعنا تختلف في بيئتها وثقافتها عن الأخرى. ولذا ترى أن هناك المؤسسة الناجحة كما نرى المؤسسة الفاشلة. ذلك لأن لكل مؤسسة بيئة معينة تحدد أسلوب عملها، أسلوب تعاطيها مع موظفيها إلخ... بمعنى آخر لكل واحدة من هذه المؤسسات ثقافة معينة وهي الثقافة التي تحدد بيئة العمل في المؤسسة.


ويمكن تشخيص الأنواع التالية من الثقافات التي تؤطر بيئة العمل في كل مؤسسة كما يلي:


1- البيئة السلطوية: وهذه البيئة تجدها في المؤسسات الصغيرة أو المؤسسات الدكتاتورية والتي تقل فيها الضوابط وتعتمد على مركزية فرد ما أو مركزية قوة معينة. هذه البيئة تهتم بالتنافس الشديد مع الشركات الأخرى، ويقوم المركز بتحديد الأهداف بدقة وبصورة حاسمة لا تقبل النقاش وذلك من أجل زيادة الإنتاج وتقليل تكلفة ذلك الإنتاج من أجل زيادة الربح التجاري. في هذه الحالة فإن المرونة قليلة والاهتمام بالوضع الخارجي للسوق يتغلب على الاهتمام بالعاملين داخل المؤسسة.


2- البيئة البروقراطية/ الروتنية: تعتمد على هذه البيئة على الضوابط والإجراءات والمعاملات التي يتطلب تخليصها المرور على محطات العمل الروتيني. وهذه البيئة لا تهتم بطول وقت الإنتاج أو تخليص المعاملات، لأن أهم ما لديها هو تنفيذ متطلبات الإجراءات الروتينية.


وفي هذه البيئة يتم التركيز على الاستقرار والتحكم في العمل بغض النظر عما قد يسببه الحصول على هذا التحكم والاستقرار. هذه البيئة هي التي تسيطر مثلاً على الوزارات الحكومية وعدد من المؤسسات المشابهة.


3- البيئة المرنة/ المتفتحة: وهذه البيئة تعتمد على اللامركزية وعلى الذكاء الشخصي للأفراد العاملين داخل المؤسسة، وتسعى هذه البيئة لتحقيق النمو في الموارد البشرية والأرباح من خلال النجاح في تنفيذ المهمات التي تحتاج لإبداع مستمر. ومثل هذه البيئة تلبي متطلبات تلك الشركات التي تحتاج لسرعة الاستجابة وتنفيذ ما تتطلبه الأسواق المتطورة، وهذا يعني أن الضوابط قليلة والأشخاص يتصرفون بحرية أكبر ومرونة تتطلبها الحاجة للإبداع المستمر.


4- البيئة الشعبية: وهذه قد لا تجدها في المؤسسات لأن همها الأول هو إراحة العاملين أو الأفراد المنظمين في المؤسسة، وهو ما قد نجده في النوادي والتجمعات الشعبية والمؤسسات الخيرية.


العوامل التي تحدد البيئة التي تتبعها مؤسسة معينة متعددة وربما أهمها:


1- تاريخ المؤسسة.
2- أصاحب المؤسسة.
3- الحجم، ونسبة ذلك الحجم داخل السوق.
4- التكنولوجيا المستخدمة.
5- أهداف المؤسسة.
6- الأجواء المحيطة بالمؤسسة.
7- الأشخاص داخل المؤسسة.
8- الوضع السياسي والقوانين الضابطة.


الحديث عن البيئة الأفضل ليس هو ما حاولنا التطرق إليه، ذلك لأن البيئة الأفضل هي التي تناسب العوامل المذكورة أعلاه، ولكن المشكلة عندما تفرض المؤسسة بيئة معينة غير مناسبة، وهذا ما يسبب الإحباط والفشل.

العدد 4303 - الأربعاء 18 يونيو 2014م الموافق 20 شعبان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً