تواجه مصر، منذ العام 2011، واحدة من أخطر الأزمات الاجتماعية والسياسية في تاريخها الحديث، إن لم تكن أخطرها على الإطلاق. هل ستحدق المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في مصر بالحكومة المقبلة وتحكم عليها بالفشل؟
بينما يسعى النظام الجديد المدعوم من الجيش إلى تثبيت سلطته وتدعيم شرعيته، يعاني الاقتصاد المصري من أزمة اقتصادية طاحنة. ولذا تبدو تدابير إعادة الهيكلة المالية والتقشّف ضرورية إذا أردنا الحديث بجدية عن أي احتمالات للتعافي الاقتصادي، غير أن تمريرها في هذا الوقت قد يكون صعباً من الناحية السياسية إذ أنه لزام على النظام الجديد توسيع قاعدته وتشكيل تحالف أكثر شمولاً من المؤيدين من أجل تحقيق الاستقرار في مصر والحفاظ على السلطة واستعادة النمو الاقتصادي.
مصر بين الشعبوية والتقشّف
فاقمت سنوات الاضطراب السياسي التي أعقبت إطاحة الرئيس المصري حسني مبارك في العام 2011 العديد من المشاكل الاقتصادية الهيكلية التي طالما عانى منها اقتصاد البلاد.
وقد انخفضت معدّلات النمو السنوية مع هروب ضخم لرؤوس الأموال الأجنبية، وهو مازاد من تردّي وضع الموازنة وميزان المدفوعات وعجز الاحتياطي الأجنبي.
وعلى الرغم من الحاجة الماسة إلى اتّخاذ تدابير تقشّفية لتدارك العجز المتزايد في الموازنة، إلا أنه ربما لا تُقدِم القيادة على اتخاذ تلك الخطوات التي لاتحظى بقبول شعبي وقد تقوّض دعائم النظام الجديد.
وقد سنّت الحكومة الانتقالية بتمويل من حلفائها العرب في الخليج، خطّتَين للتحفيز بهدف زيادة الاستثمارات ورفع معدلات النمو وإيجاد فرص العمل. ومن الناحية الاجتماعية تستهدف معظم المشاريع الواردة في الخطتين الطبقة المتوسطة الدنيا والفقيرة في المناطق الحضرية، من خلال توفير الإسكان لذوي الدخل المنخفض أو ضخّ الأموال في عمليات تحديث الأحياء الفقيرة في المراكز الحضرية الكبيرة.
وعلى الرغم من استحضار التجربة الناصرية كثيراً في خطاب النظام الرسمي، إلا أنه من المستبعد أن يترجم النظام الجديد هذا الخطاب إلى اتّباع نهج شعبوي اقتصادي يقوم على اضطلاع الدولة بالتوزيع وتقديم الخدمات العامة كتبرير لمصادرة الحريات السياسية، كما حدث في العهد الناصري لعدم توفر الموارد الكافية لذلك.
طريق صعبة إلى الأمام
ليست المشاكل المالية في البلاد بعصية على الضبط بالضرورة، فإذا استأنف الاقتصاد المصري نموه عقب تسلم عبد الفتاح السيسي الرئاسة، عندها يمكن لإعادة الهيكلة المالية أن تمضي قُدُماً، وبتكلفة سياسية يمكن احتمالها.
وإذا تعافى الاستثمار المحلي والأجنبي، فسيصبح بالإمكان تحقيق معدّلات نمو أعلى بعد ثلاث سنوات من الركود.
لايوجد مستثمر، بصرف النظر عن جنسيته، مستعدّ لوضع أمواله في اقتصاد متداعٍ في بلد غير مستقرّ سياسياً. ولهذا يتعيّن على الحكومة المصرية وحلفائها العرب في الخليج أن يواصلوا إقامة مشاريع التحفيز الضخمة لإنعاش النمو وجذب المستثمرين مع مضي الحكومة قدماً في إعادة هيكلة ماليتها العامة.
من المفترض أن يكون لهذه المشاريع تأثير إيجابي على القاعدة الأوسع من الاقتصاد حيث تتدفّق الأموال من الجيش، المتلقّي المباشر لأموال الخليج، على المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي يعتمد عليها في تنفيذ المشاريع، وقد تكون تلك المشاريع الأولى في سلسلة من التدابير التي تستهدف هذه الشركات كجزء من استراتيجية تهدف إلى خلق قاعدة دعم سياسي أوسع للنظام.
غير أن تشكيل تحالف أكثر شمولاً، وهو مطلب أساسي لتثبيت دعائم النظام الجديد بقيادة السيسي، يتطلّب ماهو أكثر من مجرد تدفق بعض العائد على قاعدة الاقتصاد الواسعة، بل سيكون على السيسي وحكومته إعادة النظر في مستقبل شبكات المحسوبية الموروثة من عهد مبارك، إن لم يكن تفكيكها جزئياً أو كلياً للسماح بنمط اقتصادي بديل أكثر شرعية وقبولاً.
مقدمة
في آذار/مارس 2014، أعلن المشير عبد الفتاح السيسي نيّته الترشح للرئاسة المصرية. وبفوزه في أيار/مايو بأغلبية ساحقة من الأصوات، تقلّد السيسي السلطة السياسية رسمياً، وبدأت رحلة طويلة من مواجهة تحديات سياسية واقتصادية خطيرة.
فمن الناحية الاقتصادية، سيجد الزعيم المصري نفسه بين المطرقة والسندان، إذ يعيش اقتصاد البلاد حالةً هي الأقرب إلى الركود منذ ثورة كانون الثاني/يناير 2011 التي أطاحت الرئيس الأسبق حسني مبارك. وفي خضم هذا الركود، تزايد العجز في موازنة الدولة العامة وفي ميزانَي التجارة والمدفوعات، وبلغ العجز في هذه الموازين مستويات تنذر بالخطر. وتلاشت الآمال في حدوث انتعاش اقتصادي في خضم عملية انتقال سياسي بالغة الطول أًديرَت على نحو سيّئ.
نظراً إلى هذه الظروف، سيضطرّ السيسي حتماً إلى سنّ تدابير تقشّفية وخفض الإنفاق لتحقيق قدرٍ من الاستقرار الاقتصادي. وعلى الرغم من الحاجة الماسة إلى هذه التدابير من الناحيتين المالية والاقتصادية، قد يكون من الصعب تمرير تدابير التقشّف المالي سياسياً بسبب عدم وجود توافق واضح حول الخطوات اللازمة لذلك، كما أن الوضع الأمني الهشّ في البلاد يجعل من الصعب إحراز تقدّم.
من الناحية الاقتصادية، سيجد الزعيم المصري نفسه بين المطرقة والسندان.
هل ستحدق المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في مصر بالحكومة المقبلة وتحكم عليها بالفشل؟ أم هل سيتمكّن السيسي من الاستفادة من شعبيته لبناء تحالف يدعم النظام السلطوي الصاعد في البلاد؟
يشكّل التعافي الاقتصادي المتمثّل في زيادة النمو والاستثمار، وبالتالي معدّلات التوظيف، أولوية لحاكم مصر الجديد. كما أن التعافي الاقتصادي هو أيضاً شرط مسبق لأي عملية إعادة هيكلة مالية جادّة وشاملة تبدو البلاد في أمسّ الحاجة إليها في المدى المتوسط. إن كلتا العمليتين يجب أن تحدثا بالتوازي. فمن خلال خفض العجز، ستؤدّي إعادة الهيكلة المالية إلى تحرير مزيد من الموارد للاستثمار الخاص، وهو الأمر الذي يعدّ ضرورياً لتحقيق النمو الاقتصادي وإيجاد فرص العمل. ومع ذلك، يجب أن يصاحب عملية إعادة الهيكلة هذه تحقيق الاستقرار السياسي والأمني كي يحدث التعافي الاقتصادي، وإلا فإن إعادة الهيكلة المالية ستدفع الاقتصاد إلى موجة ركود أعمق مع خفض الإنفاق الحكومي ورفع الأسعار نتيجة لإلغاء الدعم، وبالتالي، يبدو أن الاستقرار السياسي هو السبيل الوحيد للخروج من حلقة الركود المفرغة، ومن تفاقم الصراعات الاجتماعية. وهو أمر من المنتظر أن يتجلّى في الشهور الأولى من حكم السيسي الرسمي.
المباركية من دون مبارك؟
يذهب بعض المراقبين إلى أن الحال اليوم في مصر أشبه بارتداد من ثورة كاملة إلى إعادة إحياء النظام السابق على الثورة. ويستدل هؤلاء على صدق هذا التخوّف بالقمع غير المسبوق للحريات السياسية والمدنية في السنة الأخيرة، وانتهاكات حقوق الإنسان الواقعة على نطاق غير مشهود قبلاً، إضافة إلى انحسار المجال السياسي الذي انفتح لفترة وجيزة في أعقاب ثورة يناير، والذي يبدو اليوم وكأنه جزء من الماضي الغابر. وفضلاً عما سبق، يبدو لهؤلاء المراقبين أن مجموعة المصالح القديمة داخل بيروقراطية الدولة، المدنية وكذلك العسكرية، والشبكات الأوليغارشية آخذة في احتلال المشهد بالتزامن مع المحاولة الأكثر جدّية واتساقاً لإعادة تثبيت السلطة السياسية منذ إطاحة مبارك.
يبدو في هذا السياق أن الانتفاضة الشعبية ضد نظام حكم الإخوان المسلمين الذي لم يدم طويلاً، والدعاية الوطنية التي تلت هذه الانتفاضة، قد وفّرتا ذريعة وبيئة ممتازة لعودة القوى والمصالح القديمة.
فبالنسبة إلى هؤلاء المراقبين المتخوّفين، فإن النظام الجديد في مصر ماهو سوى مباركية من دون مبارك إذ ولد النظام القديم، الذي تهيمن عليه الدولة بالتحيّزات الاجتماعية والاقتصادية والميول السلطوية نفسها، من جديد تحت ستار سلطوية جديدة مدعومة من الجيش. وقد شقّت أحزاب عهد مبارك طريقها عنوة وعادت إلى الساحة السياسية. ويبدو في هذا السياق أن الانتفاضة الشعبية ضد نظام حكم الإخوان المسلمين الذي لم يدم طويلاً، والدعاية الوطنية التي تلت هذه الانتفاضة، قد وفّرتا ذريعة وبيئة ممتازة لعودة القوى والمصالح القديمة.
وعلى الرغم من كل هذه التخوفات من عودة السلطوية القديمة ومصادرة المجال العام، لم يخمد الحراك الاحتجاجي بالكامل في أعقاب عزل محمد مرسي في تموز/يوليو 2013. فقد استؤنفت الاضطرابات العمالية في شكل إضرابات واعتصامات متتالية. ووفقاً لمركز تنمية الدولية، شهدت مصر 2782 احتجاجاً عمالياً في الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2013، مقارنةً بـ2532 في العام 2012 كلّه، و2782 في العام 2010. 1 وقد أثبت قرار الحكومة السابقة رفع الحدّ الأدنى للأجور اعتباراً من كانون الثاني/يناير 2014 أنه دعوة إلى مزيد من الإضرابات في القطاعات الصناعية والخدمية التي تملكها الدولة وتديرها، مثل وسائل النقل العام وصناعة الغزل والنسيج والخدمات البريدية، وكذلك بين الأطباء والصيادلة.
وجنباً إلى جنب مع هذه الحركة الاحتجاجية الاجتماعية والاقتصادية، التي أثبتت أنها العامل الثابت الوحيد في السياسة المصرية منذ العام 2004، تستمر مصر في مواجهة احتجاجات الإسلاميين في مرحلة مابعد مرسي. وقد أثبتت الشهور الماضية أن القمع الواسع الذي استهدف هذه الاحتجاجات لم يؤدِّ إلى القضاء على التظاهرات تماماً على الرغم من انحسارها الملحوظ مع نجاح المسار السياسي الذي وضعه الجيش في تثبيت أقدامه وفرض نفسه. وتشير الاضطرابات الطلابية المستمرّة في الجامعات الكبرى، وكذلك الاحتجاجات الصغيرة والمتفرّقة، ولكن المتكرّرة، في القرى والبلدات والأحياء، إلى أن المجال العام لم يخضع تماماً إلى سيطرة الجيش والشرطة.
ومن هنا، فإن ضمان استمرار الدعم الشعبي، أو على الأقلّ احتواء مشاعر السخط، أمر ضروري لبناء السلطة السياسية الجديدة في عهد السيسي. وسيعتمد مدى نجاح ذلك، إلى حدّ كبير، على السياسات الاقتصادية التي تسنّها حكومته.
التحدّيات المالية
عانت المالية العامة في مصر من مشكلة عجز هيكلي مزمن منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، فبعد خفض العجز لفترة وجيزة في أوائل التسعينيات في أعقاب تنفيذ برنامج التثبيت برعاية صندوق النقد الدولي، زاد العجز العام مرة أخرى. كان السبب الرئيس لهذا الاتّساع المتكرّر في عجز الموازنة هو الانخفاض المطّرد في إيرادات الدولة من نحو 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في مصر، في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، إلى مايقرب من 20 في المئة بحلول العام 2000. 2
وقد انخفضت الإيرادات لأسباب متنوّعة. فالريع الخارجي (المتحقّق من مبيعات النفط والغاز الطبيعي ورسوم قناة السويس والمنح والأشكال الأخرى من المساعدات)، إمّا تراجع أو أصابه الركود. ومن ناحية أخرى، أصبح النصيب الاقتصادي الأكبر من نصيب القطاع الخاص الواقع فعلياً خارج قدرات الدولة المصرية المحدودة على تحصيل الضرائب. هذا بينما بقي الإنفاق العام ثابتاً تقريباً، يتأرجح بين نحو 30-32 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.3 ويعاني الإنفاق العام في مصر من غياب أي قدر من المرونة، إذ أن مايقرب من ثلثي مجموع الإنفاق يتم صرفه على نفقات جارية إلزامية من خدمة للدين، إلى باب الأجور والمرتبات بجانب الدعم الذي يعتبر قضية متفجّرة سياسياً.
عليه العوض
الله يعوض على مصر