العدد 4305 - الجمعة 20 يونيو 2014م الموافق 22 شعبان 1435هـ

«الهَوْشَة» في بغداد والهَذَر في «واشنطن»!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الأميركيون انسحبوا من العراق العام 2011 لكنهم أبقوا نفوذهم السياسي والأمني والاستخباراتي المحكَم هناك، عبر الاتفاقية الأمنية، وعبر سفارة هي الأكبر في العالم، وبها 5 آلاف موظف، وتعمل فيها كافة الأجهزة الاستخباراتية الأميركية الستة عشر، وبالتالي هم جزء من مشكلة العراق، سواء بمنسوب تلك القوة أو بضعها افتراضا.ً
عجباً ما نقرأه هذه الأيام. فماذا لو سمعتَ نصحاً من «فَتَّان» حول حرمة الخصومة؟ أو سَمِعتَ من كذَّابٍ قولاً يدعوك فيه إلى الصِّدق؟ هذا الأمر بات يكثر في عصرنا. فالدولة «الإسلامية» في العراق والشام تفعل ذلك ومعها ربائبها من القَتَلَة والمجرمين وآكلي لحوم البشر، ولكن هناك آخرون أيضاً، ممن يفعلون ذلك: ينصحون بالصدق لكنهم يكذبون.
قبل أيام، جاء في تقرير لباتريشيا زنجرلي وديفيد الكسندر في «رويترز» أن مشاورات مكثفة تجري في واشنطن حول الوضع في العراق! أوباما ومسئولون كبار في حكومته اجتمعوا بزعماء الكونجرس لبحث الخيارات الأميركية في العراق. رئيس هيئة الأركان الأميركية الجنرال مارتن ديمبسي كان له حديث أيضاً. السناتور الديمقراطية ديان فاينشتاين‭‭‭‭‭ ‬‬‬‬‬رئيسة لجنة المخابرات في مجلس الشيوخ كذلك ومعها السناتور الجمهوري جون ماكين والسناتور ميتش مكونيل الزعيم الجمهوري لمجلس الشيوخ كلهم تحدثوا عن ذات الأمر.
هذا الأمر جِدُّ غريب، وكما عَنْوَنَّا هذه المقالة: «الهَوْشَة» في بغداد والهَذَر في «واشنطن»! وبالمناسبة، فإن لفظة الهَوْشَة ليست عامية في الأصل كما يعتقد البعض بل هي عربية فصحى وتعني الفِتْنة والهَيْج والاضطراب والهَرْج. وكذلك الهَذَر الذي يعني في العربية الكلام الذي لا يُعْبَأُ به وكثير الخطأ والباطل. والحقيقة أن اللفظين يتناسبان جداً إلاَّ أن ارتباطهما من حيث جهة الأول وموقعه (العراق) وجهة الثانية وموقعها (الولايات المتحدة) أمر فيه نظر وتفصيل.
فكيف يقول وزير الدفاع الأميركي تشاك هاجل خلال جلسة بالكونجرس بأن الحكومة العراقية الحالية التي يقودها نوري المالكي «لم تُنجِز مطلقاً الالتزامات التي قطعتها لتشكيل حكومة وحدة وطنية مع السُّنة والأكراد والشِّيعة»؟ والجميع يعلم بأن الأميركيين هم الذين دقُّوا الإسفين الطائفي في جَسَد السياسة والاجتماع العراقي!
الأميركيون جاءوا بحميد مجيد موسى رئيساً لإحدى دورات مجلس الحكم ليس لكونه سكرتيراً للحزب الشيوعي العراقي بل لكونه شيعياً على الرغم من أنه لا يعرف شيئاً عن التشيُّع! وجاءوا بعدنان الباجه جي رئيساً في مجلس الحكم ليس لكونه رئيساً لتجمع الديمقراطيين المستقلين، بل لكونه سُنياً على الرغم من أنه لا يعرف عن التسنُّن أي شيء. وكذلك فعلت مع يونادم كنه باعتباره مسيحياً لا لكونه علمانياً حتى النخاع.
هذه الثقافة هي التي أرسَتها الولايات المتحدة الأميركية في العراق. والأكيد أن كلام هاجل ليس انتصاراً للسُّنة في العراق ولا لعمار الحكيم ولا لمقتدى الصدر، ولا للأكراد المناكفين كلهم للمالكي، وهم يعلمون ذلك. لذا، فإن واشنطن إذا ما أرادت أن تتحدث عن حكومة جامعة، فعليها أن تدعو إلى ذات «الوفاق» الذي كان قائماً في العراق، حين كان العراقيون أخوالاً وأعماماً وأزواجاً لبعضهم دون أن يشعروا بأن شيئاً غريباً بينهم.
دخل الأميركيون العراق ومرقد الإمامين العسكريين في سامراء يُحمَى ويُدار من العشائر السُّنية الخادمة له، ومرقد الإمام أبي حنيفة كان لا يفصله عن أهم بقعة شيعية في بغداد (مرقد الإمام الكاظم) سوى جسر. وحين غادروا العراق كانت قبة العسكريين قد فُجِّرت وانتُهِكَت حرماته، ومسجد أبي حنيفة قد تم اقتحامه وركوب أسطحه بالأحذية.
وفي الوقت الذي كان العراق تتفتق جُدُره وأرضه نتيجة للانقسام والتهجير بفعل الاحتلال، كانت المؤسسة العسكرية الأميركية تناقش دفع 900 ألف دولار «كتعويض لورثة جندي أميركي قُتِل في العراق». وبالتالي «ضرورة دفع 28 مليار دولار لـ 4000 جندي أميركي قُتِلُوا في العراق» حسب ستيغلتز/ بيلمز. وفي الوقت الذي كان العراقيون ينتشلون ضحاياهم من مكبات القمامة، أو من الشوارع وهي متفحمة، كان الأميركيون يعالجون جنودهم من أمراض الحساسية الجلدية، أو الأمراض النفسية، وكأن الدماء والأنفس في أدنى فروقاتها بين العراقيين والأميركيين.
هنا، لا نريد أن نعيش في «دائرة الذنب الموروث» لكننا أيضاً لا نريد لِمن ارتكب الذنب أن يعطي توجيهات في الإحسان، فضلاً عن أن يُصحح ذنبه، بل ويَعِد بتدخل «ما» في العراق بطريقة وبأخرى، أو كما قال الجنرال مارتن ديمبسي بأنه يبحث عن «استيضاح الوضع المضطرب على الأرض حتى يمكن اختيار أي أهداف بشكل رشيد»! هذه هي المشكلة.
نعم، الأميركيون انسحبوا من العراق العام 2011 لكنهم أبقوا نفوذهم السياسي والأمني والاستخباراتي المحكَم هناك، عبر الاتفاقية الأمنية، وعبر سفارة هي الأكبر في العالم، وبها 5 آلاف موظف، وتعمل فيها كافة الأجهزة الاستخباراتية الأميركية الستة عشر، وبالتالي هم جزء من مشكلة العراق، سواء بمنسوب تلك القوة أو بضعها افتراضاً.
أهم ما يُقدَّم للعراقيين وهم في أزمتهم الكبرى اليوم هو أن يُدركوا معنى التراضي القائم على التنازل. نعم التنازل من أجل الأرض والشعب ومستقبل الأجيال. ماذا ينفع إن أنا حكمت مقبرة، أو مكاناً تمر به الجنائز كل ساعة! إنها خرائب نيرونية! فاستمرار مثل هذا الوضع، سيقود الشعب العراقي إلى هزيمة نفسية، والنظرة إلى التغيير على أنه لهو في ظل حفره للحود كل لحظة. لم ينفعهم الاحتلال ولا سياساته، فلينفعوا أنفسهم بالعدالة المفقودة في ظل حكم منقوص واجتماع مشروخ.
أختم القول بذكر وصية هرمس وجهها لأحد الملوك وجاءت في كتاب أخبار الحكماء للقفطي: من توليه أمور الناس فيجب عليه أن يكون ذاكراً ثلاثة أشياء: أن يده تكون على قومٍ كثير، والثاني أن الذين يده عليهم أحرارٌ لا عبيد، والثالث أن سلطانه لا يلبث. واعلم أن الرعية تسكن إلى مَنْ يُحسن إليها، وتنفر ممن أساء، والسلطان برعيته، فإذا نفروا عنه كان سلطان نفسه.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4305 - الجمعة 20 يونيو 2014م الموافق 22 شعبان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 12 | 9:50 ص

      متابع : رد على الزائر 9 ( 2 )

      أي أن الحل هو ( ضم ) المكون السني ، و ( إلغاء ) داعش ، فالحملة العسكرية أراها صحيحة إذا اقترنت بعملية شراكة سياسية حقيقية و تصالحية مع باقي المكونات ( غير داعش ) ، . . . وأعتقد أن هذا هو مراد الكاتب الكريم من خلال هذه المقالة ، وشكرا على الطرح الجميل ، ونستفيد من المناقشات .
      ملاحظة : آمل أن لا تشغل الأحداث الكاتب الكريم عن مواصلة المواضيع الثقافية والإجتماعية الرائعة التي كان يطرحها قبل فترة ، نتمنى أن لا تنقطع

    • زائر 11 | 9:42 ص

      متابع : رد على زائر 9 ( 1)

      كان رأيي أن نكون واقعيين لا أن نعيش في الأحلام و الأشعار ، مبدأ التراضي والتنازل أقبله عموما و لكن قطعا داعش لا تقبله ، ولن تقبل بأقل من سحق وقطع رأس كل من يقف ضدها - حليفا او عدوا - ( قبل قليل ورد خبر عن مقتل 17 شخص في قتال بين داعش وجماعة عزة الدوري أي أن التحالف بدأ ينهار ) فهكذا عقلية داعش لا تقبل التنازل والحل الوسط أي ليست عدوا يمكنني صداقته - فالقصة أنه لا يريد - ، المعادلة الصحيحة هو التراضي والتنازل مع المكونات بما فيها السني و محاولة فصلها عن داعش ، ومواصلة الحملة على داعش ...

    • زائر 10 | 7:09 ص

      محرقي بحريني

      المشكلة يا أخ عبدالله أن أمريكا تستخدم مبدأ فرق تسد ضد دول وشعوب المنطقة لتسيطر عليهم والمشكلة الاكبر العراقيين والنخب السياسية بجميع طوائفهم مو قادرين يستوعبون هذا الامر بل أنهم يتصارعون على السلطة وعلى الحصص والثروات
      ياريت العراقين يفهوم هذا الامر بدل ما المالكي وغير المالكي شهيتهم مفتوحة للسلطة على حساب خراب بلدهم و أمريكا تشعر بسعادة على ذلك لان هدفها تحقق
      مثل ماقلت ياريت يستخدمون مبدأ التنازل لان هذا المبدأ ملغي من قاموس العرب حتى لو تدمرت أوطانهم

    • زائر 8 | 3:40 ص

      تقول الحكمة ان انت اكرمت الكريم ملكته ..وان اكرمت اللئيم تمرد

      اللئيم دائما وابدا ان مددت له يدك اكلها ولا يرى ذلك سلاما منك وامان واخوة وانما ضعف وتراجع وخوف هذا هو اللئيم وضايعة الحسبه وياه كما يقال ،لانك غرست في سبخ .
      ولكن كما يقول ابا الانسانية ،في هذه الحالة
      رد الحجر حيث اتاك وهذه اللغة التي يفهما اللئيم دائما ومفعولها قوي ومجرب .وما ضاع حق وراءه مطالب .

    • زائر 7 | 3:33 ص

      واشنطن لا يهمها عدد القتلي والمجازر التي تحدث في العراق

      فهي ما زالت تتحكم في منابع النفط من كازخسان شرقا الي ليبيا غربا ومن العراق شمالا الي دول الخليج جنوبا وهذا هو المهم مادام النفط تحت اليد.. لكن اللوم يقع علي الجميع من سكان هذه المناطق حكومات وشعوبا التي تعتقد في الوهية امريكا كاعتقاد الهندوس في البقر.
      مقال ممتاز حبذا لو يصل الي الي جميع من يتعامل مع العم "سام" ويقرأه بتمعن ويستخلص معانيه

    • زائر 6 | 3:33 ص

      قول غير صحيح

      امن قال ان حميد مجيد موسى، وعدنان الباجه جي، ويونادم كنه ليس لديهم معرفة بمذاهبهم وديانتهم، أن تميزهم المعرفي والفكري ليس معيارا لهذه النتيجة فعلى سبيل المثال أنا أعرف حميد شخصيا وهو مثقف ضليع في الامور الدينية وطباعا في القضايا الاخرى واتصور الاثنين الاخرين أيضا لذلك لا يجوز الحكم في المبهمات، يمكنك القول أن ثوابت المذهبية والطائفية لا تعنيهم ويتصفون بالاعتدال المذهبي والديني لذلك جرى اختيارهم، اما أن تصدر حكمك بعدم معرفتهم بذلك فذلك أمر لا يمكن الاتفاق معك في شأنه.

    • زائر 13 زائر 6 | 11:33 ص

      تذكير للزائر السادس

      قبل سنوات استمعت لعدنان الباجه جي في مقابلة في الجزيرة هو قال عن نفسه إنه ما يصلي الا في المناسبات لذلك الموضوع ليس اتهاما بل حجة من صاحبها . اما سكرتير الحزب الشيوعي يعني إذا حميد مجيد موسى اعترض أثناء تنصيبه على تسميته شيعي فليش إحنا نزعل من الكاتب يا جماعة الخير!!!

    • زائر 5 | 3:29 ص

      السلطان بالرعية واذا نفروا منه سلطان نفسه

      على المالكي وجميع الحكام والامراء ان يفقهوا هذه الكلمة السلطان برعيته بهم يكتسب الشرعية والقوة والمهابة بهم يعيش ويعيشوا السلام هم ساعده وعينه واذا نفروا منه كرهوه وابغضوه لفعله وظلمه وتعديه وديكتاتوريته كان سلطان نفسه انا ربكم الاعلى -لا اريكم الا ما ارى ما اجمل ان يلتحم الحاكم بالمحكومين ويتناغمون نحو اهداف مشتركة تجمع الكلمة والموقف هدى الله حكامنا فهم بيدهم المبادرة وبيدهم كل الدولة تنازلوا عن شيء منها لشعوبكم

    • زائر 4 | 3:15 ص

      تحليل دقيق

      أشكرك أخي محمد على التحليل العميق والمنطقي للأزمة العراقية

    • زائر 3 | 2:44 ص

      أصبت

      شكرا لروعة وصدق قلمك

    • زائر 2 | 9:56 م

      متابع : طرح جميل . . . لكن سؤال

      هل التراضي القائم على التنازل الذي ذكرته سيقنع داعش وأخواتها - وهي الماسكة بزمام الأمور في الميدان - ؟ هل سيقنع أخونا عزة الدوري والبعثيين وراءه ؟ . . . . هل خرج هؤلاء من أجل الحياة الكريمة لأجل الجميع ومصلحة الجميع حتى يقتنعوا بحل توافقي ؟ أم أنهم خرجوا لمشاريع عدمية سوداء لا تفقه شيئا مما ذكرته حتى يرضوا به ؟ . . . . أظن أن مشكلتنا أننا نصيغ حلولا مثالية عادلة لأناس لم يفهموا معنى العدل بعد ، ربما أحيانا لا تنفع التنازلات لأناس لا يرضون بها بل يريدون سحق مخالفيهم فلا ينفع حينئذ إلا المواجهة

    • زائر 9 زائر 2 | 5:44 ص

      شعر

      ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً ما من صداقته بدّ

    • زائر 1 | 9:55 م

      احسنت يااستاذ

      شكرا لقلمك المميز

اقرأ ايضاً