العدد 4321 - الأحد 06 يوليو 2014م الموافق 08 رمضان 1435هـ

كم مثل «ديلانو» في هذا العالم؟

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الجميع سَمِعَ بكاش ديلانو ريجستر. فاسمه بدأ يُتداول في الصحافة منذ شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. لكن الأكيد، أن أحداً لم يسمع به عندما كان عمره تسعة عشر عاماً، بل عندما بلغ الثالثة والخمسين من العمر، أي بفاصل أربعة وثلاثين عاماً. لماذا؟ إليكم السبب.

في العام 1979 عُثِرَ على امرأة تبلغ من العمر 79 عاماً في إحدى الولايات الأميركية وهي مُضرَّجة بدمها. جاءت فتاة تُدعَى برندا أندرسون وشَهِدَت أمام المحكمة بأنها «سمعت إطلاق نار» وإنها «رأت شخصاً يركض ويطلق النار مرتين» حيث اتهمت كاش ديلانو ريجستر بأنه هو ذلك الرجل الذي كان يركض وبالتالي هو الذي قتل المرأة العجوز.

أدانت المحكمة ريجستر على الرغم من أنه كان يصرخ طوال الوقت بأنه وفي تلك اللحظة التي وقعت فيها حادثة القتل كان مع صديقته. لم تأبه الشاهدة ولا المحكمة بما يقول. ضُرِبَت عليه الأصفاد، وأُخِذَ إلى السجن. بعد 34 عاماً من لحظة إدانته، تبيَّن أن الرجل بريء. نعم بريءٌ! يا للهول!

فقد جاءت شقيقتان لبرندا أندرسون وقالتا أن أختهما كَذَبَت على المحكمة. أعيدت محاكمة المظلوم كاش ديلانو ريجستر وبُرِّئ من تهمة القتل. كان ذلك في العام 2013. أي أن الرجل قضى أربعة وثلاثين عاماً في السجن ظلماً، ضاع فيها 64 في المئة من عمره لغاية الإفراج عنه.

يقرأ كثيرون هذه الحادثة فيُصابون بالحزن والكَمَد. وربما اعتقد البعض أن مثل هذه الأحداث تحصل في فترات زمنية متباعدة، كونها خارجة عن قواعد الأخلاق والضمير والسلوك البشري القويم، لكن الأمر ليس بهذه «البراءة الشعورية». فهناك وحوش بشرية فعلت ذات الأمر وهي اليوم تنام وتأكل وتسافر وتضحك دون «وخزة ضمير».

إنهم ليسوا في لوس أنجليس فقط كي يظلموا كاش ديلانو ريجستر مدة 34 عاماً. وليسوا في دالاس كي يشهدوا زوراً ضد جيمس وودوارد كي يقضي 27 عاماً ظلماً في السجن. وليسوا في سيرلانكا كي يشهدوا ضد دي .بي. جايمس فيقضي 50 عاماً ظلماً في السجن دون محاكمة. هم في كل صدر لا يكون فيه ضمير. في الغرب والشرق على السواء.

كم من حَيْفٍ وقع على بشر، نتيجة شهادة زور كالتي أدلَت بها برندا أندرسون، أُلقوا نتيجتها في غياهب السجون، بعضها بدافع كراهية شخصية أو طائفية أو عرقية. وعندما يحصل ذلك، فإنه يعني إفلات المجرم الحقيقي من العقاب، وإدانة البريء بتهم غير حقيقية، وهو ما يؤدّي إلى نشوء ظلم ممنهج، وبالتالي تعرض الدولة إلى هزات سياسية وأمنية، تدفع بها آهات المظلومين.

لذا، فإن القضاء النزيه يُوجِب على المحكمة أن تُحرِّك اتهاماً حال انعقاد الجلسة، وقبل أن يُقفَل باب المرافعة في الدعوة عندما تتثبَّت من أن شهادة زور قد وقعت أمامها. كما وأنه يُعاقب مَنْ يشهد زوراً بالحبس، مقرونة بالأعمال الشاقة. بل جاء في بعض الأحكام أنه إذا «كانت العقوبة المحكوم بها على المتهم هي الإعدام ونُفِّذت عليه يحكم بالإعدام أيضاً على مَنْ شَهِدَ زوراً». فالموضوع هنا مرتبط بقتل روح بريئة دون وجه حق ولا مُسوِّغ.

وقد جاء النهي عن شهادة الزور في القرآن الكريم في عدة مواضع كما في الآية 30 من سورة الحج: «فاجْتَنِبوا الرِّجْسَ من الأَوثانِ واجتنِبوا قولَ الزُّورِ»، وفي الآية 72 من سورة الفرقان «والذين لا يَشْهَدونَ الزُّورَ وإذا مَرُّوا باللَّغْوِ مرُّوا كرامًا». وفي الآية 2 من سورة المجادلة «وإِنَّهُمْ لَيَقولونَ مُنكّرًا من القولِ وزُورًا وإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ». فشهادة الزور من الكبائر.

ولو مررنا على تاريخ البشرية، لرأينا أن الحضارات العريقة، كانت تعتمد القضاء النزيه للمحافظة على سلامة المجتمع وأمنه. وربما كانت تدوينات سادس ملوك مملكة بابل «حمورابي» واحدة من تلك الصور، رغم أنها دُوِّنت منذ ألف وسبعمئة وتسعين عاماً قبل الميلاد، على الرغم من أن قواعدها كانت ملائمة لظروف التطور البشري لتلك الفترة.

في العلاقات الإنسانية والاجتماعية، كل شيء مرتبط بالآخر. فتطور المجتمع يجعله أكثر سعة في القدرة على استيعاب المتناقضات السياسية دون النظر إلى العرقيات والطوائف المرتبطة بها. وعندما يصل المجتمع إلى ذلك الحد (وتصل الدولة أيضاً إلى ذلك الحد) فإنه يتجاوز مسائل الانتقام بهذه الطريقة أو تلك. وهو ما شهدته الدول المتقدمة، التي لم تعد تستحي من معالجة السقطات السياسية والاجتماعية والقضائية التي تقع فيها، ومن بينها شهادات الزور التي قد تحصل بحق الأغيار في اللون والانتماء.

لكن، في المجتمعات التي لازالت رجلها غائصةً في وحل تلك التناقضات المميتة، فإنها تتثاقل عن فعل الصحيح، ومنها صحيح العدالة والقانون، لذلك هي تستمر في تلك الحالة السيئة، وفي الوقت نفسه تتعمق في مساحة الخطأ، التي تتعاظم بالتوازي مع الإخفاق في خلق قضاء نزيه، فتجلب معها المشكلات الناتجة عن غياب العدالة وإنصاف الناس، وجبّ شهادة الزور. فالحقوق لا تتجزأ ولا تتبدل ولا تخضع للمزاج.

وكما قال الأديب اللبناني الكبير جبران خليل جبران: «للبحر مد وجزر، وللقمر نقص وكمال، وللزمن صيف وشتاء، أما الحق فلا يحول ولا يزول ولا يتغير».

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4321 - الأحد 06 يوليو 2014م الموافق 08 رمضان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 2:23 ص

      ضمائر ميته

      لدينا الكثير من هؤلاء في هذا البلد

    • زائر 3 | 1:50 ص

      قال تعالى في محكم كتابه الكريم بسم الله الرحمن الرحيم

      يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ

    • زائر 1 | 10:52 م

      ظلم صحيح هناك في امريكا يتم تعويضه فهل يحدث عندنا في بلاد الاسلام

      بلاوي أبرياء تم الزج بهم وسجنهم لسنوات طويلة والأدلة اعترافات والجميع صرخ بانها انتزعت منهم اكراها عن طريق التعذيب والمصادر السرية شماعة التجريم وأقول في بلاد الكفرة ممن يطلق عليهم من قبل المتعصبين يتم تعويض البريء تعويضا مجزيا فهل يحدث ذلك في بلاد الاسلام

اقرأ ايضاً