العدد 4335 - الأحد 20 يوليو 2014م الموافق 22 رمضان 1435هـ

من دروس الثورة المضادة

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ونحن مازلنا نعيش في رحاب ذكراه السنوية، ننقل عن كتاب «الكامل»، ما نقله سفيان، من أن علياً لم يبنِ آجرةً على آجرة، ولا لبنةً على لبنة، ولا قصبة على قصبة، وإنه كان ليؤتى بحبوبه من المدينة في جراب.

وفي سيرته البيضاء، أنه كان لا يشتري ممن يعرفه، لئلا يراعيه بخفض الثمن، وكان يحمل في ملحفته تمراً اشتراه من السوق، فهمّ بعضهم بحمله عنه، فقال: «صاحب العيال أحق بحمله». وكان يطوف في الأسواق ويدعو الباعة لتقوى الله وصدق الحديث والوفاء بالكيل والميزان. وكانت حياته مسلسلاً متواصلاً من العطاء الذي لا ينضب، والتضحية والدفاع عن المحرومين والفقراء، حتى نصب نفسه مدافعاً أول عن حقوق الطبقات التي لا صوت لها.

من مفارقات التاريخ الإسلامي، أن مثل هذا الرجل الضخم، تعرّض للسبّ على منابر المسلمين تسعين عاماً، حين آلت الأمور إلى مناوئيه الأمويين. وظلت تلك السنة الخبيثة حتى جاء عمر بن عبدالعزيز على رأس السنة الهجرية المئة فألغاها، وحين سمع جماعةً يتجادلون في أزهد المسلمين، قالها بصدق ودون تردد: «أزهد الناس في الدنيا علي».

هذا الرجل الذي لم يضع آجرة على آجرة، ولم يملك بيتاً، عاش في بيت أخته أم هاني في الكوفة أيام ولايته، ورفض السكن في قصر الإمارة وكان يسمّيه «بيت الخبال». وحين يذهب الزائرون إلى الكوفة، يشاهدون هذا البيت الصغير، وإلى جانبه أطلال قصر الإمارة، شاهدَين على ذلك العصر الذهبي للعدالة والمساواة والإنصاف.

لم يحكم عليٌّ (ع) أكثر من خمس سنين، لكنه ترك إرثاً إنسانياً وتجربة باهرةً في الحكم، مازالت تهفو إليها قلوب عشّاق الحرية والمتعطشون للعدل والمساواة. ومازالت تلك حاله حتى تعرّض للاغتيال في مثل هذه الأيام من سنة أربعين للهجرة، وقال عنه قتادة: «قتل عليٌّ على غير مالٍ احتجبه، ولا دنياً أصابها».

حين تقرأ تلك الفترة من التاريخ، يدهشك ما لاقت هذه التجربة الناصعة من ثورةٍ مضادةٍ سوداء، وما تألّب من أجل إسقاطها من أحزاب متنافرة، جمعتها المصالح والأطماع. وكان جميع من قاتلوه يعرفون فضله وسبقه ونزاهته وحفظه لتراث النبوة والتزامه الجادة البيضاء.

حين نقلّب هذه الصفحات من التاريخ، لا نقلّبها تغنياً بأمجاد الأجداد أو عيشاً في الماضي، وإنما استلهاماً من دروس التاريخ، الذي يعيش معنا كل حين، ويتوعدنا بتكرار مجازره ومآسيه. فكم من الدماء سالت في عصور الفتن، وتسيل في هذا الزمان.

حين نزلت الشعوب العربية إلى الميادين والساحات في عدد من الدول العربية، في أحداث الربيع العربي المجيد، للمطالبة باسترداد كرامتها وحرياتها المهدرة وحقوقها المسلوبة، تألبت عليها قوى الردة والرجعية والثورة المضادة. وساهم في وأد هذه الثورات الأحزاب القديمة والقيادات التقليدية الهرمة. ونجحت الأنظمة وقوى الثورة المضادة في تحريف الحراكات الشعبية بتحويلها إلى صراعات دينية ومذهبية، ودخلت القوى الإقليمية والغربية لتحويلها إلى حركات عسكرية عنيفة، اجتمعت مع ردود فعل الأنظمة الدكتاتورية في تدمير الأرض والإنسان، وإرجاع هذه الدول بدل النهضة والتحرّر... عقوداً إلى الوراء.

في التاريخ، ساهمت العصبية القرشية في إجهاض تلك التجربة الثورية الكبرى، وتحويل الرسالة الإسلامية إلى ملك عضوض على أيدي الأمويين، بعد أربعين عاماً فقط. وساهم في إجهاضها تلك القوى التكفيرية «الخوارج» التي لا تملك مشروعاً غير القتل ونشر الفوضى، تحت شعار برّاق: «لا حكم إلا لله». وهو المشروع نجد نظيره يتمدّد اليوم في المنطقة تحت شعار دولة الخلافة في العراق والشام.

في السنوات الأخيرة من حكم الإمام علي (ع)، ومع تفكّك الجبهة الداخلية العراقية، تعرّضت الدولة الإسلامية إلى حرب استنزاف متواصلة، وكان القائد الأموي في دمشق يرسل بجيوشه للغارة على أطرافها، مع أوامر بإيقاع الأذى والتنكيل والفتك بالمدنيين والانسحاب بسرعة، على طريقة حرب العصابات: «اضرب واهرب». وتقرأ خطبة للإمام يتألم فيها بعد إحدى هذه الغارات بقوله: «ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها (الخلخال) وقلبها وقلائدها ورعاثها (أقراط الأذن). ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام». كانت هذه الغارة على الأنبار، وهي المنطقة الحدودية الهشّة التي يعيد فيها التاريخ فصوله المحزنة في الموصل هذه الأيام.

أحد قادته (بسر بن أبي أرطأة) وصل إلى الحجاز حيث أرعب أهل المدينة وشرع في قتلهم وهدم دورهم، حتى هرب بعضهم منها، من بينهم الصحابيان الجليلان، جابر بن عبدالله وأبو أيوب الأنصاري. ثم توجه لليمن حيث ارتكب مجازر يقشعر لها البدن، وسبى النساء المسلمات، مما سجلته كتب التاريخ المختلفة كالمبرد والطبري. ولكثرة ما سفك هذا المجرم من دم، اختلط عقله وكان يدور في أخريات أيامه بالأزقة يحمل سيفاً من خشب يضرب به في الهواء.

لقد كان أحد الأدوات التي استخدمتها قوى الثورة المضادة لإجهاض أنصع ثورة وأكبر رسالة إنسانية في التاريخ، تماماً مثلما جرى من استخدام هذه الحركات التكفيرية لإجهاض الربيع العربي.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 4335 - الأحد 20 يوليو 2014م الموافق 22 رمضان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 14 | 9:24 ص

      الحق مع علي

      من يريد من الحكام ان يكون بلادهو بخير يسلك طريق علي عليه السلام ولا راح يندم لانهوا طريق العدل والاستقامة والله على ما اقول شهيد

    • زائر 12 | 8:11 ص

      علي

      يسمي ابو الفقراء في احد الايام كان يمر علي البيوت لتفقد الرعية ودخل علي اسرة ومعها اطفالها وهم يبكون فسالها مابهم فقالت انهم جياع فقال ادا ماهدا الجدر الدي علي النار فقالت اني اوههم بان الغداء سوف يخلص بعد دقائق وبعد كشف غطاء الجدر وادابة الماء فقط فقام بشراء بعض الاطعمة لها وايضا قصة اخري فقير اعمي مرعلية الحسن والحسين وتكلموا معة وادابة ايضا جائع فقال لهم كل يوم ياتي لي رجل ويعطيني الطعام يومين ولم ياتي فقال هدا ابي الامام علي وان احد ضربة بالسيف والان هو يشرف علي الموت فمات حزنا علية

    • زائر 11 | 8:01 ص

      المنهجان المتصارعتين الى يوم القيامة

      حينما ارى الأجرام الذي تمارسه داعش ( طبعا ومن يدعمهم بالمال والكلمة والتعاطف)تتوضح لي الظروف التي قتل فيها ريحانة رسول الله أباً عبدالله الحسين

    • زائر 10 | 7:53 ص

      سلام الله عليك يا سيدي ومولاي أبا الحسن الامام علي بن أب طالب أسد الله الغالب

      سلام الله عليك يا سيد الموحدين ويعسوب الدين وقائد الغر المجلين إلى جنات النعيم أمير المؤمنين وإمام المتقين

    • زائر 9 | 7:49 ص

      يجب الرد على مثل هذه الأشخاص بالأدب والعلم وليس بالسخرية

      صدقت ، هذا الرد الصحيح اللي يقنع الآخرين

    • زائر 7 | 5:43 ص

      منذ اول يوم وانتم هذا حالكم تعارضون كل ما نزل في هذا الامام

      وما ذنبنا اذا كان الله يريد لكم الهداية وتريدون الغواية؟ بعث الله النبي الأكرم ص وكان من اهم مهامه ان يصطنع لخلافته رجل يقود الامّة بلا عثرات وكما قال الله عن النبي موسى واصطنعتك لنفسي كذلك كان الرسول الاكرم ص يرعى الامام علي منذ نعومة اظفاره فرباه وصقله وهيئه لقيادة الأمّة. فقد أوكل له المهمات الصعاب وكانت السماء تواكب ذلك ففي تبليغ سورة براءة وبعد ان بعث بها ابي بكر نزل جبرئيل يطلب من النبي ان لا يبلغها الا هو او احد منه فهل تفهم ذلك راجع تفاسيركم

    • زائر 6 | 5:31 ص

      حين تبخس الأمم عظماءها = الامام علي صناعة الرسول بأمر السماء

      ركّز النبي ص على ابراز الإمام علي ع كقائد رباني رعته السماء ويد النبوة في تربيته منذ نعومة اظفاره وهو في حجر الرسالة ترعاه في كل صغيرة وكبيرة حتى نشأ صناعة خاصة تقتفي آثار الرسول في كل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة. لذلك للامام علي ع من الاحاديث ما ليس لغيره من كم وكيف ونوعية. من آية التطهير وآية المباهلة وآية الولاية وسورة الانسان وغيرها من الآيات وأما الاحاديث فهي اكثر من حديث اتباع العترة والمنزلة والمآخاة وحديث الغدير وغيرها ما يثبت ان هذا الرجل ليس عادي

    • زائر 5 | 2:54 ص

      اللوم ليس على الحركات التكفيرية بل على المستفيد من بقائها : العلماء و المراجع

      الحركات التكفيرية مادة متعددة الاستعمال طوال التاريخ، وهي جاهزة دائماً لكل من يريد استخدامها. الحركات التكفيرية التي قسمت المسلمين إلى روافض ........... ؛ أو نواصب معادين لأهل البيت!
      من الآخر: المسئول هم العلماء و المراجع! و هم وحدهم القادرون على قلب الطاولة على الحركات التكفيرية و إبطال مفعولها كأن لم تكن. فهل نكتب لهولاء و يستجيبوا؟ أشك في ذلك. لأن ذلك فقدان لهيبتهم، و سبب بقائهم.

    • زائر 2 | 1:31 ص

      استمر أستاذ قاسم

      سلام الله عليك يا امير المؤمنين يا أبا الحسن يا أعظم مدرسة تستقى منه الدروس والعبر ،أسلوب جميل منك يا أستاذ قاسم حسين استمر في هذا الطرح الرائع .

    • زائر 1 | 10:45 م

      كلام جميل

      حوش كلام بس مأفال أنا ولي لله وعبدوني لأن الله واحد لا شريك له

    • زائر 3 زائر 1 | 2:12 ص

      فعلا

      رسول الله من قال من كنت مولاه فعلي مولاه, اللهم وال من والاه وعاد من عاداه

    • زائر 4 زائر 1 | 2:29 ص

      لأنك ما قرأت .. واستمعت لمبغضي علي

      ادعوك أخي للرجوع إلى أمهات التفاسير ومنها جامع البيان للطبري والكشاف للزمخشري وجامع الاحكام للقرطبي وتفسير ابن كثير لتقف على تفسير الآية (إنما وليكم الله والرسول والذين آمنوا الذين يؤتون الزكاة وهم راكعون) .. كما أدعوك إلى البحث عن حديث الغدير في الصحاح والكتب المعتبرة.. (من كنت مولاه فهذا علي مولاه)... روح يا حبيبي اقرأ لك كم كتاب من كتبكم وبعدها تعال.

اقرأ ايضاً