العدد 4340 - الجمعة 25 يوليو 2014م الموافق 27 رمضان 1435هـ

سعيد رضي: حين تكون اللوحة جزءًا من المشهد

حين تدخل مركز جدحفص الثقافي لأمسيةٍ شعريةٍ، أو محاضرةٍ ثقافيةٍ تشدك مجموعة اللوحات التي تعلقت على جدران الصالة فيما يشبه معرضاً فنياً دائماً، فتتوقف معها لتجدها حزمة من الأعمال التشكيلية التي أنجزها الفنان سعيد رضي بريشته الماهرة وألوانه الجميلة، في طابعٍ إبداعيٍ واحدٍ، أشبه بمشروعٍ فنيٍ آخذٍ في التشكَّل والتكامل، مشهداً بعد مشهد، ولوحةً بعد لوحةٍ.

وتجد أن هذا المعرض الفني الدائم الذي أصبح يصاحب كل أمسيةٍ ثقافيةٍ يعقدها مركز جدحفص يمثل حالةً ثقافيةً بصريةً بامتيازٍ، وذلك حين يكون العمل الفني جزءًا من الحدث الثقافي اليومي، وجزءًا من البصيرة التي تؤثث المكان، وتعمّق المشهد بالألوان والموضوعات التي اقتنصها الفنان ورصدها في لوحاته، بما يمنح المتلقين ثقافةً بصريةً بامتيازٍ ويغني المشهد الثقافي، ويدعو المراكز والمنتديات الثقافية الأخرى للاقتداء والاحتذاء بهذه الخطوة الفنية التي تقيّم الفن التشكيلي وتقدره وتبرزه وترهن له جدرانها المصمتة.

مشاهد فرحٍ وحزنٍ

مجموعةٌ اللوحات التي اصطفت على الجدران تأخذك إلى حزمةٍ من المشاهد اليومية، أو الموسمية التي التقطها الفنان سعيد رضي بتوئدة، وقدمها في لوحاته بمهارةٍ، ففي البداية هي مجموعةٌ من الوجوه الغائبة الملامح، وهذه هي السمة الجامعة بين معظم اللوحات، أما موضوعاتها فمستمدة من مشاهد الذاكرة الشعبية، فقد جمعت بين مشاهد، بعضها ملتقطةٌ من ذاكرة شهر رمضان أو ذاكرة شهر محرم عاشوراء حيث يحمل النسوة والأطفال الصحون ويدورون بها بين البيوت لتوزيع الطعام وتبادل التهاني أو التعازي فيما بينهم، أو مشهد المسحراتي أو ربما هو مشهدٌ لمجموعةٍ من الأطفال والشبيبة وهم يحملون الطبول في زفةٍ شعبيةٍ في الأحياء في حالة من الفرح، بينما تجسّد اللوحات الأخرى حالةً من الحزن أو ترصد لحظات الخوف ففي إحدى اللوحات جسّد الفنان وجهين مملوءين بالدهشة والرعب بعيونٍ مفتوحةٍ على آخرها، ولوحةً أخرى هي لطفلٍ يختبئ محتميا بين الجدران وكأنه في كهفٍ ما، وعيونه تمتد للأمام هلعةً خائفةً مترقبةً.

وجوهٌ وملامح غائبةٌ

تشدك عند الفنان كذلك اللعبة اللونية التي من خلالها تحس أنه في كل لوحاته حاول تغييب الملامح من كل شيءٍ فالخلفية عبارة عن ضرباتٍ لونيةٍ متلاشيةٍ أما الأشياء فغائبةٌ تماماً وليس لديك في اللوحات سوى الوجوه، التي أعمل الفنان فيها فرشاته فجعلها كذلك غائبة الملامح لا يبدو منها سوى الإحساس الذي يعكس حالتين مرةً حالة الفرح المشدوه والمغيم وغير الواضح إلا من خلال رؤية الناس متجمعين، والحالة الأخرى التي ركزت عليها الوجوه هي حالة الهلع والخوف فمرةً تجد طفلاً مختبئاً ومرةً تجد وجهين في حالةٍ من الهلع والخوف، وأخرى مجموعةٍ من النسوة يقفون على جنائز مكفنةٍ في ظلامٍ حالكٍ ولعل هذا الظلام أيضاً هو السمة الأخرى التي تجمع بين اللوحات في خلفياتها ولكن بمهارةٍ لونيةٍ تبرز المشهد وتتواءم في ألوانها مع موضوع اللوحة.

ألوانٌ متداخلةٌ

في تفاصيل اللعبة الفنية التي أنجزها الفنان سعيد رضي في هذه اللوحات تجد أن الألوان تراوحت بين ألوانٍ حارةٍ حارقةٍ، وأخرى باردةٍ مموهةٍ حيث يحضر الأصفر والأحمر بجرأته ولكنّ ريشة الفنان كانت ماهرةً في تخفيف هذه الحرارة وأخذها للعمق وإبقاء إحساسها فقط من خلال ضرباتٍ لونيةٍ سريعةٍ تموه المشهد وتحافظ على الإحساس فقط وقد بدا ذلك واضحاً في الخلفيات المشهدية أو في الوجوه الغائبة الملامح المشدوهة بالواقع، وكل ذلك بألوان (الأكريليك) وفي مساحات اللوحة المعتادة المتوسطة الحجم بالشكل المستطيل والتي اصطفت على جدران الصالة طولياً أو عرضياً.

أحاسيسٌ مرصودةٌ

ما يشدك في هذه اللوحات هي دهشة الوجوه، وصرخات الأفواه، واتساع النظرات، بعيونٍ غائرةٍ مفتوحةٍ، وتكوُّر الأجساد في زاويةٍ، وتلاشي الملامح وتداخل الألوان ما بين الخلفية وأشياء اللوحة، وكذلك المشاهد المقتطعة من الحياة فثمة رجلٌ يحمل كيساً على ظهره وآخر في يده بما يعكس حالة الفقر ورحلته في السعي لرزقه مولياً الناس وراء ظهره غير عابئ بهم في شيءٍ من الإنكار، أو مجموعةٌ من النسوة وقد تلفعن بجلابيبهن في ظلامٍ دامسٍ وسط بيتٍ متهالكٍ، أو مشهدٌ لكرسيين متواجهين في صورةٍ رمزيةٍ لغياب الذات وتحكم الأشياء والمواقع بالناس.

حيوية الإبداع

رغم طول الأمد ما بين مشاهدتك لهذه اللوحات لأول مرةٍ، وهذه اللحظة التي تشرع فيها في كتابة هذه المقالة إلا أن ثمة ولعٌ جميلٌ هو الذي مازال يشدك لأن تكتب حول هذه اللوحات وهذا الفعل الثقافي وهذا الفنان المتقن لأدواته والذي ربما ظل يعمل بعيداً عن الأضواء طويلاً حتى أنجز هذه اللوحات وجمعها في هذه الصالة الثقافية ليصنع لنا فعلاً ثقافياً محايثاً للحدث الثقافي الذي يشرع فيه هذا المركز كل أسبوعٍ تقريباً.

يذكر أنه مع نهاية عقد السبعينات حصل رضي على بعثةٍ في الفنون التشكيلية في مصر جامعة حلوانٍ ونظراً للظروف السياسية فترة صلح السادات والمقاطعة العربية توقفت البعثة، فتوجه للشام لدراسة الفنون سنةً واحدةً على حسابه، وهناك ورده أنه تم إعادة قبوله في مصر فتوجه لها مرةً أخرى لكنّ ذلك القبول لم يكن مثبتاً، فظل يراوح مكانه إلى أن قرر مع ثلاثةٍ من الأصدقاء التوجه إلى الهند، وكذلك هناك لم يحصل على المبتغى كون المعهد الفني الذي ابتعث له الثلاثة أقل من مستواهم الدراسي، فما كان منه إلا أن عاد مرةً أخرى، ولكنه هذه المرة تخصص في التاريخ في جامعة بيروت العربية، شارك رضي في مجموعةٍ من المعارض الفنية في البحرين، وقبل أن يقدم لوحاته في هذا المعرض الدائم، كان أخر معرضٍ عامٍ شارك فيه في 2004، ورغم ذلك إلا أنه ما زال يحتفظ بألق الموهبة وحيوية الإبداع وهو ما يلحظه المتلقي في مجموعة لوحاته الأخيرة هذه.

العدد 4340 - الجمعة 25 يوليو 2014م الموافق 27 رمضان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 10:50 م

      أريد أن أتواصل مع هذا الفنان

      السلام عليكم أريد أن أتواصل مع هذا الفنان إذ سمحتم

اقرأ ايضاً