العدد 4375 - الجمعة 29 أغسطس 2014م الموافق 04 ذي القعدة 1435هـ

الهند وحلم شرق آسيا

سانجيف سانيال

خبير استراتيجي عالمي لدى دويتشه بنك

سانجيف سانيال

(المقال ينشر بالاتفاق مع «بروجيكت سنديكيت») 

في الخامس عشر من أغسطس/ آب، ألقى نارندرا مودي أول خطاب في عيد الاستقلال بوصفه رئيساً للوزراء. ورغم أنه يواصل التقليد المتمثل في مخاطبة البلاد من خلف استحكامات القلعة الحمراء التاريخية في دلهي، فإن خطابه كسر ذلك التقليد، فقد نبذ مودي النص المكتوب وارتجل لساعة كاملة، فرسم رؤية واضحة للهند، بما في ذلك النموذج الاقتصادي الذي يشكل انفصالاً حاداً عن ماضي الهند.

منذ العام 1991، بدأت الهند تغير ببطء إطارها السياسي بعيداً عن الرؤية الاشتراكية التي رسخها أول رئيس وزراء للهند جواهر لال نهرو. ولكن لأسباب سياسية، كانت التغييرات تبرر دائماً بطريقة أشبه بالاعتذار. والواقع أن العديد من المؤسسات من عصر نهرو لا تزال قائمة ــ بل ومزدهرة.

في ضربة واحدة، أعلن مودي إلغاء واحدة من أهم هذه المؤسسات: لجنة التخطيط القوية، التي استمرت بطريقة ميكانيكية في تنفيذ «الخطط الخمسية» على النمط السوفياتي، وظلت في قلب عملية تخصيص الموارد المركزية. ومن المرجح أن تعمل خليفتها، «لجنة التنمية الوطنية والإصلاح» على نحو أقرب إلى مركز للفكر والرأي، فتقدّم الأفكار وتضمن اتساق السياسات، ولكن من دون صلاحية تخصيص الموارد.

كما ساق مودي الحجج لصالح نموذج جديد للنمو الاقتصادي يقوم على التصنيع الموجه للتصدير. وهذا يعني تشجيع الشركات المحلية على تصنيع السلع للتصدير ودعوة كبريات الشركات في العالم لنقل عملياتها الإنتاجية إلى الهند. وهو جهد بالغ الأهمية، لأن قطاع الخدمات يهيمن على اقتصاد الهند وصادراتها، وقد سجل هذا القطاع نمواً ثابتاً نسبة إلى إجمالي الناتج، لكي يشكل الآن نحو 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

وفي المقابل، ظلت حصة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي بلا تغيير على مدى العقود الثلاثة الماضية، عند مستوى 26 في المئة تقريباً (وحصة الصناعات التحويلية أصغر، حيث لا تتجاوز 14.9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي).

وعندما نستعرض تأكيد مودي على التصنيع القائم على التصدير في سياق تركيز حكومته على مشاريع البنية الأساسية الثقيلة، التي تتراوح بين توليد الطاقة إلى السكك الحديدية، يصبح من الواضح أن نموذج النمو الذي يتبناه، حيث يبدو توظيف العمالة ورأس المال في الصناعة على نطاق واسع وفقاً لهذا النموذج أشبه باستراتيجية بلدان شرق آسيا. كما يتسق هذا النموذج مع إشاراته المتكررة للاحتياج إلى إنشاء مدن جديدة، لأن التوسع الحضري يُعَد تجلياً مكانياً للتصنيع.

ولا ينبغي لهذا التحول إلى نموذج النمو المتبع في «شرق آسيا» أن يكون مفاجئاً، وذلك نظراً لخصائص الهند الديموغرافية. فهي تحتاج إلى خلق فرص العمل لعشرة ملايين شخص يلتحقون سنوياً بشريحة السكان في سن العمل. وهي تحتاج أيضاً إلى استيعاب الملايين من الراغبين في التحول بعيداً عن قطاع الزراعة، الذي لا يزال يوظف نصف قوة العمل. ورغم أن قطاع الخدمات كان قادراً على توليد النمو في الماضي، فقد أثبت عجزه عن خلق فرص العمل الكافية، فهو لا يوظف سوى 27 في المئة من العاملين، وهو مستوى أدنى كثيراً من نصيبه في الاقتصاد. وفي المقابل، يُنظَر إلى قطاعات مثل البناء والتشييد والصناعات التحويلية عن حق باعتبارها منافذ واعدة للتوظيف الجماعي للعمال شبه المهرة.

ولا يخلو مسار مودي من العقبات بطبيعة الحال. فكثيرون ينظرون إلى النظام الضريبي والتنظيمي في الهند باعتباره طارداً للأعمال؛ ولكن سجل أداء مودي في الحكومة يشير إلى أنه حساس في التعامل مع هذه المشكلة، وسوف يتمكن من إدخال تحسينات مهمة.

يكمن التحدي الأعظم الذي يواجه مودي في طريقة عمل المسار الذي اختاره للنمو. ذلك أن نجاح نموذج شرق آسيا استند إلى زيادة حادة في معدلات الاستثمار. فبدءاً باليابان، كان كل اقتصاد سريع النمو في شرق آسيا يدعم معدلات استثمار تراوحت بين 38 في المئة و40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على مدى المرحلة التي شهدت نمواً سريعاً. وفي الوقت الحالي تستثمر الصين نصف ناتجها المحلي الإجمالي تقريباً. وفي المقابل انحدرت نسبة الاستثمار الثابتة في الهند في السنوات الأخيرة إلى نحو 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

ومن الممكن أن يلعب رأس المال الأجنبي دوراً مهماً في دعم النمو السريع، ولكن التجارب الدولية تثبت أن المدخرات المحلية تشكل المفتاح إلى تعزيز معدلات الاستثمار المرتفعة. والواقع أن تعبئة هذه المدخرات سوف تتطلب التفكير بروية وحذر في كيفية توسيع النظام المالي المحلي بشكل كبير من دون المخاطرة بالانزلاق إلى أزمات في المستقبل.

وتمثل هجرة عشرات الملايين من البشر الذين يمتصهم الاقتصاد الصناعي المتوسع مشكلة كبرى أخرى. فالهند لا تتمتع بالضوابط الاجتماعية السياسية التي تفرضها الصين، مثل نظام الهوكو لتراخيص السكن، لإدارة مثل هذا التحريك الضخم للبشر. ولعل اليابان أو كوريا الجنوبية أصغر كثيراً من أن تخدم كسابقة مفيدة. وربما يأمل مودي استباق المشكلة من خلال مشروعه لإنشاء مئة «مدينة ذكية»، ولو أن الطريقة التي سيتم بها تنفيذ البرنامج تظل غير معلومة.

على رغم كل العقبات والمخاطر، طرح مودي رؤية اقتصادية تفصيلية وواضحة لأول مرة منذ نهرو. وعلى النقيض من الإصلاحات التبريرية طيلة العقدين الماضيين، فقد حصل الهنود اليوم على الوعد ببداية جديدة واثقة. والآن لم يتبق سوى التنفيذ.

إقرأ أيضا لـ "سانجيف سانيال"

العدد 4375 - الجمعة 29 أغسطس 2014م الموافق 04 ذي القعدة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً