العدد 4378 - الإثنين 01 سبتمبر 2014م الموافق 07 ذي القعدة 1435هـ

«الآيلة للسقوط» بين نَهَم الجرَّافات وتحوّلها إلى متاحف ومراكز

بيوت مضى على بنائها عقود... السطو على الذاكرة...

ربما يكون هذا البيت أقدم بيوت منطقة الدراز
ربما يكون هذا البيت أقدم بيوت منطقة الدراز

أبوصيبع، القلعة، جدالحاج، الدراز - جعفر الجمري 

01 سبتمبر 2014

في كثير من الأحيان، تعرف البلدَ من هندسته المعمارية. من بيوته. الأشكال التي تكون عليها والهيئات. النوافذ أحياناً والأبواب ومكوِّناتها. بالتخطيط الهندسي من الداخل، أنت غير معنيّ. لن تستطيع أن تلجَ البيوت جميعها. بعضها يُعطيك ملْمحاً لثقافة البلد ونمط حياته بمعاينة الشكل من الخارج. في الداخل يكون الأمر خليطاً من ثقافات في التصميم والأثاث. من أصغر التفاصيل إلى أكبرها. بعض يكون منسجماً في الداخل، وغير منفصل عمّا يقدِّمه الشكل والتصميم والهندسة في الخارج.

في كثير من بلدان العالم أيضاً لا يُترك للتمدّد العمراني حريَّة شق طريقه ليلتهم كل شيء وأثر وقيمة وشكل ومضمون. الكلام هنا معنيٌّ به الإعمار، من المدن الكبيرة إلى الصغيرة. يبرز ناشطون مهمتهم الحيلولة والوقوف ضد أي محاولات لترك جرَّافات الشركات العملاقة كي تمسخ تاريخ وذاكرة المكان. الهندسة جزء من ذلك التاريخ وتلك الهندسة. عالجت تلك القضايا مجموعة من الأفلام السينمائية. أحدها لـ «Sandra Bullock» و «Hugh Grant» في فيلم «Two Weeks Notice» من نيويورك، لندن، باريس، روما، برلين، موسكو، وغيرها من العواصم وضواحيها وأريافها، وحتى تلك التي تصنف ضمن الصغرى أو حتى «المايكرو» من إفريقيا بجهات ثلاث إلى شمالها في الجزء العربي. ثمة ما يدل على تاريخ وذاكرة المكان. ذلك هو واحد من المداخل المهمة لمعرفة بشر المدن قبل معرفتها. العبث بذاكرة وتاريخ المكان سيطول الإنسان طال الزمن أم قصُر!

في الدول الكبرى، حتى في المدن الصغيرة في سكّانها ومساحاتها، لا يتم فقط الحفاظ على جزء من ذاكرة وتاريخ المكان، وبفضل تحرك وحيوية ناشطين. يتم تخصيص جزء من المباني لتتحول إلى متحف وطني يحوي تاريخ وصناعات وإنجازات وصور الفاعلين والرموز فيها. تتحول إلى ورشة فيها الدرس والبحث. تستمد بعض الجامعات وأطروحات الطلاب بعض موضوعاتها والرسائل الجامعية منها، وأيضاً مراكز أبحاث ومكتبات في كثير من الأحيان.

أكثر من ذاكرة آيلة للسقوط

ربما بعد 20، 30، 40 سنة لن تجد ما يدل على الهندسة المعمارية هنا في مملكة البحرين إلا في حدود البيوت التي يتم امتلاكها من قبل جهة وحيدة ربما، لا أحد ينكر الدور الثقافي والتنويري الذي تقوم به، بتحويل بعض البيوت إلى مراكز وأوعية ثقافية تكاد تنحصر في منطقة بعينها، وإن حاولت أن تتمدد من بعد جزيرة أهلنا في المحرق، إلى المنامة وعلى استحياء.

في الريف... القرى التي تظل آخر الهم والاهتمام، لا أحد من الجهات الرسمية يكترث بتلك البيوت. ينظر إليها في كثير من الأحيان باعتبارها بيوتاً آيلة للسقوط قد يتسبب وجودها في كارثة إنسانية كبرى، ومن ثم المبادرة إلى ترميمها، والترميم هنا في كثير من الأحيان: إعادة البناء، وحلول هندسة وأشكال معمارية حديثة. الهندسة الأولى في مهب النسيان والشطب. لن نصل طبعاً إلى مرحلة أن نحلم أو نتجاوز في حلمنا، بأن تقوم الدولة بشراء تلك البيوت، وأعني هنا البيوت التي مازالت تحتفظ بقيمتها وشكلها وخاماتها ومضمونها المعماري السابق، الذي يمتد بعضها إلى أكثر من 70 عاماً وبعضها يتجاوز ذلك بكثير، وتحويلها إلى قيمة ووعاء ثقافي يقدّم فيها نماذج للصناعات والحِرَف والرجال الذين مروا على تحولاتها وتاريخها، وقدموا خدمات يجب ألا يتم التنكّر لها بسهولة، كما هو التنكّر لكثير من الملفات والرجالات والمواقف، مع حفظ أن بعض أولئك الرجال لم يتم شطبه من الذاكرة بشكل كلي. الم نتجاوز الحلم؟ يبدو كذلك.

ما الضيْر في أن تحلم؟ ربما ذلك ما تبقى لأكثر البشر اليوم.

مشروع بناء وترميم البيوت الآيلة للسقوط، مشروع رائد ومهم، وقد يكون الوحيد بين المشاريع في منطقة الخليج. ذلك أمر لا تختلف على أهميته وجدواه موالاة أو معارضة. في ثنايا المشروع غفلة أو استغفال، أو حتى عدم جدوى وعبث لم منحه أدنى اهتمام. كيف؟ نعود إلى مستهل الكتابة. ما تم إغفاله أو تغافله، أن جل البيوت التي يتم حصرها لتدخل في مرحلتين: إما الهدم الكلي، أو إعادة الإصلاح. لا أعرف حالات إعادة إصلاح هنا: الجرَّافات تنتظر وجبتها السريعة! بينما ثمة بيوت مضى على بعضها من الهيئة والمعاينة، والمواد المكونة لها، الطين والحجر والنوافذ الخشبية التي جاء أغلبها من شبه القارة الهندية، والجذوع والأعمدة، قبل أن يتم اختراع وتدشين المدن الإسكانية. نتحدث هنا عن أشكال وهندسة - وللمرة الثانية - لا تحوي ذاكرة وتاريخ المكان فحسب؛ بل الإنسان الذي تولّى بناءها. تولّى بناءها مهندسون وبناؤون بالفطرة والخبرة. تلك الفطرة والخبرة لها تاريخ وامتداد أيضاً.

وفي ذهاب المدن الحديثة - العربية منها عموماً، والخليجية خصوصاً - إلى ستر ومواراة ما يمكن أن يدل على تقصيرها وهوّات العدالة وتوزيع الثروة فيها، إلى إزالة ومحو أثر بعض من أوجه المعمار فيها، وخصوصاً المعمار الذي تم تشييده بأموال وتعب وعرق أصحابه، من دون منّة من أحد، لا تحقق شيئاً سوى أنها تمعن في الأخذ بتلك الذاكرة والتاريخ إلى أقرب حفرة يمكن مواراتهما فيها.

الترميم ومشاريع الوعي

هنالك أكثر من صيغة يمكن تبنّيها؛ على الأقل بعض صيغ بيوت درستْ آثارها، أو تكاد، تم تحويلها إلى مراكز ثقافية، ومناطق إشعاع. لا يكابر أحد أو يزايد على نبل الهدف منها. مشاريع ثقافية تستدعي المخزون المهمل والمركون. تعيد قراءته، وتبحث فيه، وتتناوله بروح العصر، وتستلهم منه قيماً وكثيراً من المعاني. مثل تلك المشاريع بأهدافها التي نجلّ، لم تستعجل تحريض الجرّافات على تلك البيوت. قامت بالمحافظة على السمات الكبرى فيها. أدخلت عليها إضافات لا غنى عنها بطبيعة الارتباط بهذا العصر. لم ينل ذلك من كونها مركزاً للذاكرة، وتعجّ بتاريخ يمكن تحريكه وتفعيل الجميل والمضيء منه.

تم شراء بعض تلك البيوت، وتم تعويض أصحابها. ليست معنية هذه الكتابة بما إذا كان التعويض مجزياً أو مجحفاً، تلك مسألة أخرى؛ على رغم أهميتها؛ إذ لا يعقل أن يكون الهدف نبيلاً، إذا اعتوره خلل إجحاف أو «بخس الناس أشياءهم».

تلك في مناطق محدّدة. لم تشمل مسحاً للبلد كل البلد. نعلم أن بعضها مشاريع شبه خاصة، وذلك أمر يقع بالدرجة الأولى على عاتق الدولة التي من مسئولياتها الالتفات إلى تلك العمَارة والبيوت، وإدخالها ضمن مشاريع الوعي وتركيزه والإضافة إليه بما لا يمس جوهر روحه. الوعي بالتاريخ والذاكرة اللتين تشملان المكان بما فيه من عمارة ومشغولات وفنون إلى الإنسان الذي أوجد وصنع وأبدع كل ذلك.

انتخاب الاشتغال على الذاكرة

تجزئة الذاكرة، وانتخاب ما يناسب أطرافاً، والتعتيم وإهمال ما تراه تلك الأطراف خلاف مصلحتها، لا يقدّم ذاكرة حقيقية. لا يقدم تاريخاً لا يمكن اختراقه ووضعه تحت المساءلة. يقدم ذاكرة منقوصة، وتاريخاً غير مكتمل الملامح. لن ينجو من التشوّه بأي حال من الأحوال.

الجميل في التنوع البشري أنه يقدم تنوعاً أجمل في ما يحمله أولئك البشر من تنوعهم، من ثقافة ومعتقدات وقيم ورؤى، وأنماط عيش، وتقاليد، ولهجات. ذلك التنوع هو الذي يفتح آفاق الدرس، ويمنح مدى للاستجلاء والتفكّر والتمعن. كثيرة حظٍ هي الأمم التي لديها مثل ذلك التنوع.

الذاكرة... التاريخ وسط كل ذلك هو المادة الخام الرئيسة للوقوف على ما بعد ذلك التنوع من داخل كل من أطرافه.

أن تنتخب عمَارة، بيتاً، ثقافة، مجموعة بشرية، إثنية محددة، وتشتغل عليها بحثاً وصيانة لما تآكل منها أو درسَ، متجنّباً، أو غير معترف بما سواها، فذلك أول الإشكال وأكبره، ولا يمتّ إلى نبل المسعى في شيء، مهما أنفقت من الأموال. تظل تلك الأموال في مسعاها المحدد والذي من ورائه الكثير، تقدم ذاكرة وتاريخاً نمطيين محددين لا تنوع فيهما، بالفصل القسْري عن محيطهما وانتمائهما العام، والروابط المشتركة التي تغنيهما وتثريهما.

ما الذي يدفع إلى الاهتمام بذلك النوع من المشاريع في أمكنة دون سواها. هل الأمكنة الأخرى لا ذاكرة ولا تاريخ لها؟ أم يُراد لها أن تكون مفتقرة إلى الاثنين، أو تقديمها إلى العالم على أنها كذلك... في الصورة التي يُراد لها أن تكون عليها مثل تلك المشاريع؟

في البيوت التي مررنا بها، في كل من: أبوصيبع، القلعة، جِدّ الحاج، والدراز، نقف على خلاصة ما تم طرحه في العناوين والفقرات السابقة: ماذا لو طالت يد الإشعاع تملك بعض تلك البيوت من جهات رسمية أو أهلية ذات إمكانات مالية ضخمة، وتعويض أصحابها (على الأقل في كل منطقة اختيار بيت تبعاً للمساحة والموقع، يجمع مناطق إذا ما كانت متجاورة ومتقاربة)، وتحويلها إلى متاحف صغرى تحفظ الحِرف والثقافة والإنجازات، وتكون في الوقت نفسه متنفساً ومراكز التقاء للبشر على اختلاف أعمارهم، والشباب منهم خصوصاً، في ظل هذه الحمّى التي نشهد. لأولئك ذاكرة وتاريخ. وللأمكنة تلك ذاكرة وتاريخ، بعيداً عن جهنم التقسيم التي يُراد للمكونات هنا أن يدخلوها، ولكن بطبيعة الحال «لن يكونوا آمنين» في دخولها كما الجنة؟!

لا نتحدث هنا عن متاحف ومراكز على النمط الذي تُرصد لها موازنات في دول للثقافة قيمة كبرى عندها. نتحدث عن أموال يمكن رصدها بأكثر من متابعة وصيغة، تدفع بالمؤسسات المالية والتجارية التي لا همَّ لأكثرها إلا تكديس أرصدتها، وتمدد مشاريعها التي مارس جزء منها عمليات التشويه والطمس والمحو، ولم تنجُ منها البيئة. بالقيام بمسئولياتها التي تم تأجيلها؛ أو تلك التي يتم توجيهها أيضاً بحسب مقتضيات الحال والأهداف!

الاستثمار في الذاكرة

مدننا... والقرى خصوصاً في الطريق إلى الخروج من عباءة امتدادها وأصولها وجذورها. العمَارة اليوم خليط من أجزاء في أوروبا، والهند وآسيا عموماً. ظل القليل من الأقواس، وهناك خلاف على امتدادها والأصول. عرفت اليونان وروما وغيرها من المدن تلك الأشكال التي دخلت على هندسة البناء لديها.

البيوت التي تنشأ أو تلك التي نشأت قبل سنوات تذهب في الانفصال عن هيئة وأشكال وخامات العمارة والبناء. فقط هي السرعة في كل شيء. توجّه الناس إلى خيارات مكررة أو منسوخة - إلا قليلاً - والقليل من تلك البيوت التي تشعر بشيء من الجوع إلى تلك التفاصيل التي اختفت من العمارة والبيوت البحرينية، لجأت إلى التعويض عن كثير من قبح هيئات البيوت في الخارج، بجماليات الأمس وبساطته، وحتى بعض مواده الخام. ذلك لا يكفي. وليس ذلك هو الموضوع. الموضوع ألاّ نكف عن الحلم. حلم أن يتم إنقاذ ما تبقى من تلك البيوت، وتحويلها إلى مراكز إشعاع، وإلى متاحف مصغّرة (مايكرو) تحوي شيئاً مما يمكن تداركه، وما هو بين أيدي الناس، مما يشير أو يوحي بالذاكرة. إنجازات هنا وهناك لرجال أيضاً لا يمكن إغفالهم في ظل هذه الحمّى - للمرة الثانية - صناعات، حرف، مشغولات، مخطوطات، كتب. شباب أيضاً هو مهبّ ضياع لا يمكننا التغافل عنه. ضياع وافد ومصطنع، وضياع من صناعته أحياناً. تلك الأمكنة فيما لو تم وضع حدّ للجرافات تلك التي لا تُشبع نهمها إلا بالهدم، وتعميرها لتكون موئلاً ومنفذاً لن تكون محصلاته ونتائجه مخيّبة إذا صدقت وحسنت النوايا، ورصدت لمشاريع كتلك موازنات تكفيها لأن تبدأ. المهم أن تبدأ. المهم أيضاً ألاَّ نكفَّ عن الحلم!

العدد 4378 - الإثنين 01 سبتمبر 2014م الموافق 07 ذي القعدة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً