العدد 4401 - الأربعاء 24 سبتمبر 2014م الموافق 30 ذي القعدة 1435هـ

الهروب من الواقع إلى الفن... ذاكرة المكان في السيرة

«أيام الفن والأدب» لعبدالكريم العريِّض...

كريم العريض في سوق البز بالمنامة العام 1972
كريم العريض في سوق البز بالمنامة العام 1972

«قال أحد أفراد عائلتي؛ إن كريم يرى رؤى تختلف عمّا يراه الآخرون من الأطفال. وعندما أتحدث عن الرسم والهوايات الأخرى يقول بعضهم؛ إنه يهرب من الواقع المعاش. إصراري على التجريب دفع البعض إلى القول بأنه يجب كبح جماح هذا الطفل غريب الأطوار حتى لا يخسر مستقبله الدراسي».

من اللوحة الأولى التي تم تعليقها في تلك القاعة... إلى افتتاح أول معرض خاص له في البحرين العام 1960، مروراً بطلبه من مستشار حكومة البحرين ترخيص مجلة أدبية في العام 1972، وتفاصيل أخرى، يطوف بنا الفنان البحريني الرائد عبدالكريم العريض، عبر ذاكرة لم تكسبها الشيخوخة إلا مزيداً من الحدّة والرهافة. «أيام الفن والأدب» كتاب العريض الخامس، الذي تولت ترجمته لونا العريض، وصدر ضمن كتاب مجلة «البحرين الثقافية» في العام 2012.

وهو في الثمانين من عمره (مواليد العام 1934) مايزال محتفظاً بقدرته على استدعاء التفاصيل. تفاصيل الأمكنة والناس. وبعض تفاصيل الزمن. زمنه في تلك الفترة المبكرة من تاريخ البحرين.

في الأربعينيات لم يعر الناس اهتماماً بالفن. لديهم أولوياتهم. لديهم الفقر المحيط. لديهم الأوبئة والأمراض التي لم تجد وقتها ما يكفي لوضع حد لها، حتى وإن كانوا وقتها موضوعاً للفن، في هيئة البيوت التي يسكنون، وكان أكثرها من الأكواخ، والملابس التي يرتدون والأسواق التي يرتادون.

ربما بما توافر للعريض أيضاً من ظروف معيشية، بحكم الوجاهة التي تتمتع بها عائلته، استدرجه الفن منذ طفولته، وهو يفتح عينه على المكان والناس. ثمة فسحة وفرصة للولوج إلى ذلك العالم؛ علاوة على الفطرة التي تحولت إلى هاجس وتعلّق.

«إنه يهرب من الواقع المعاش»، هكذا كانوا يقولون عنه. لا تبرؤاً من واقعه الخاص، بل بسبب شعوره بضرورة كسر الرتابة في ذلك الزمن الذي لم يكن ممتلئاً بمساحات اللهو وخيارات تضييع الوقت. مثل ذلك الواقع ببذرة الفنان الأولى في داخله، رأى ضرورة الانتقال بذلك الواقع من سكونه وتكراره إلى عالم يتجدد. اللوحة تتيح ذلك الفضاء من التجدد. أن ترى بعين أخرى. الألوان هي الأخرى تمنح ذلك العالم في التحول والانتقال به، إلى واقع آخر يصنعه الفنان ويلوذ به.

والعريض يكتب ما يشبه السيرة، لا يتركها لتفاصيله هو. تفاصيل العائلة. يترك المساحة الأكبر للمكان الذي ولد وعاش وتفتحت مداركه ووعيه عليه. يترك مساحة للناس في ما يشبه السيرة نصاً، وفي اللوحة في الوقت نفسه.

أمام جانب من تاريخ العاصمة (المنامة) يضرب الفنان هنا أكثر من عصفور بحجر. بذاكرته وما يسعف منها، سرداً لتفاصيلها، وللوحات التي سبقت ذلك السرد بسنوات.

غيرة الفتى

“في سنة 1946 بدأت أنظر إلى الأشياء باهتمام أكثر، لقد اختار أستاذ الرسم رسمة لصديقي سعيد، وعلقها على

الجدار، وأشاد بهذا العمل الفني. حزنت لماذا لم يختر لي أنا أيضاً، ذهبت إلى البيت، وكانت حفلة زواج، وكانت (التسليمة)، حيث حملت النسوة صواني الحلوى على رؤوسهن متجهات إلى بيت العروس، والأطفال خلفهن يصفقون ويغنون، فهز هذا الموضوع مشاعري الصغيرة رسمته في ورقة كبيرة. بكّرت في الذهاب إلى المدرسة في اليوم التالي، كي أقدم الموضوع لمدرس الرسم الأستاذ عبدالقدير. كم كانت فرحتي كبيرة عندما تقبَّله مني باهتمام وتشجيع، إذ كانت أمنيتي الوحيدة قبول رسماتي وعرضها في المعرض العام”.

أن يسبقك أحد إلى فعل جميل، فليس في ذلك عيباً. أن تكتفي بالتفرج، وأنت تملك الإمكانية، مهما كانت بسيطة، فقد يدنو ذلك من العيب! على الأقل أن تكون نداً. وقتها ضمن الوعي البسيط والطفولي. أن تكون شبيهاً، ربما لا تذهب أبعد من ذلك. من ذلك التشبّه أو الشبه، ستكون لك شخصيتك ولمستك وقدرتك على صوغ ما بيدك. ما تمتلكه من قدرات وطاقات. ستكون أنت لا سواك. ذلك ما وعاه العريض. ربما لم تكن تجربته على تلك الدرجة من التفرّد، مقارنة بالذين أتوا بعده؛ لكنه ظل مؤسساً ورائداً، وفتح آفاقاً لآخرين، سواء من طلبته الذين أصبح بعضهم فنانين، أو الذين فتح لهم مشروعه الأول والرائد في الجاليري الخاص به في شارع الشيخ عبدالله في ستينيات القرن الماضي، وقد يكون واحداً من الجاليريات النادرة في المنطقة إن لم يكن أولها.

أكاديمية السوق

“سوق المنامة أكاديمية الفن التي تلقيت فيها درسي الأول منذ الخمسينيات، في فترة نضوجي الفكري، فقد أخذت الكثير من الأمور الفنية المتعلقة باللون والضوء والمنظور”.

سوق المنامة، وقتها يذكرها العريض بحكم المجاورة للمكان. في السوق يتسع النظر ويتنوع ويتعدد. للبشر العابرين يبدو الأمر كذلك. للفنان هو بيت الدرس. منه يلتقط مادته. الكاميرا لم تكن منعدمة، لكن اللوحة تحمل معها روح المكان ورائحته وتفاصيله. مناطق، وأزقة وبيوت قديمة، ووجوه لم تستطع الكاميرا أن تحتوي كل ذلك وأولئك. الفن الانطباعي وقتها غطّى كثيراً مما لم تستطع الكاميرا أن ترصده. السوق كانت أكاديمية العريض لتنوع البشر الذين يرتادونها. تنوع مادة السوق نفسها. الملابس. في الحوارات نفسها يمكن لفكرة لوحة أن تبرز وتظهر.

بلجريف: لا ينبغي للطلبة إصدار صحف

“كنت آنذاك في الثامنة عشرة من عمري، طالباً في المدرسة الثانوية. كتبت أنا وصديقي أحمد يوسف القصيبي، رسالة إلى مستشار حكومة تشارلز بلجريف، نطلب منه الترخيص لنا بإصدار مجلة مدرسية تُعنى بشئون الطلبة. حملت الرسالة إلى مكتب سكرتير المستشار سعيد الزيرة. لم يمضِ يوم على تسلّم الرسالة من قبل مكتب المستشار حتى جاءنا الجواب على المدرسة الثانوية في المنامة، حيث تقول الرسالة: (إن الحكومة لا تحبّذ أن يقوم الطلبة بإصدار صحف في وقت دراستهم) غير أن المستشار أرسل توصية إلى مدير المعارف أحمد العمران، يقترح عليه بأن تقوم المدرسة من جانبها بإصدار المجلة من حيث إن فكرة الطالبين أحمد القصيبي وعبدالكريم العريض، فكرة جيدة ويجب تشجيعهما، وأن يكونا ضمن هيئة التحرير”.

هذا التنوع في الاهتمامات سيقود الفتى إلى مشاريع يقوم على تأسيسها بعد سنوات. مشاريع لم تكن على رأس الأولويات أيضاً. كأنه درس تعلمه من لوحة زميله التي علقت على الجدار، وقد سبقه إلى ذلك. أن يبادر في مشاريع لا يلتفت إليها كثيرون، لكنها حين تقوم على الأرض ستؤسس لزمن ووعي من دون شك. كانت المستشارية بدعوى الحرص على التعليم، ترى خطورة تأسيس مثل تلك المشاريع في الوسط الطلابي، فأسندت الأمر إلى المدرسة لضمان مزيد من الرقابة والمسئولية، والتجربة أثبتت موقف المستشارية من عدد من المشاريع الصحافية التي إما أنه تم إغلاقها بشكل دائم، أو تلك التي تتعرض إلى الإغلاق المؤقت الذي يصل إلى الشهر، كما حدث لصحيفة “القافلة” وغيرها، وإما بترتيب نوع من المقاطعة ووضع أصحابها على القائمة السوداء. لم يمنع كل ذلك الفتى من أن يتصدى لمشروع مشاكس من ذلك النوع، وإن لم يقترب من موضوعات مستفزة، لكنه سيكون منبعاً لتراكم مزيد من الوعي وتعميقه.

الرسم والفضاء المفتوح

“في العام 1954 أصبحتُ مُدرسّاً في المدرسة الغربية الابتدائية، وأخذت أعمل بجد مع الطلبة في إنجاز المعرض العام، وكنت مُوفَّقاً في اختياري للمجموعة التي تعمل معي من الطلبة، أمثال ناصر اليوسف، راشد سوار، مجيد أصغر، ومحمد اهتيمي عوّاد. كنت قد وضعت برنامجاً للتطلعات الفنية، وأخذنا نخرج إلى الشوارع لرسم المناظر البيئية من القرى والأرياف”.

ربما كنا من المحظوظين وقتها في ستينيات القرن الماضي (1965)، في مدرسة ابن خلدون بمنطقة النعيم، التي اتخذت من بيت الغضبان مقراً لها، ويديرها عبدالصاحب الشهابي. كانت مادة الرسم فرصة لنخرج إلى الفضاء... الأفق. لا حصة رسم تتم داخل الفصل. هناك في الطبيعة؛ ما لم يرتكب الطلبة شقاوة تحرمهم من تلك الفسحة الجميلة.

أسَّس الرعيل الأول من مدرسي الفن لتسخير الفضاء في مادة الرسم. الفضاء المفتوح لإطلاق إمكانات وطاقات ومواهب الطلبة. كانوا يعون جيداً ضرورة الحافز. ليس الرسم وحده باعتباره حافزا فقط. أن تكون في فضاء مفتوح وسط مكان خارج أسوار المدرسة وجدران فصولها، فذلك حافز آخر مضاعف.

ندوة الفن والأدب

عرض كريم العريض على صديقه أحمد يوسف القصيبي فكرة تأسيس جمعية صغيرة من بعض الطلبة الذين كانوا يدرسون معهم في المرحلة الثانوية “راقت الفكرة لأحمد وكذلك صلاح المدني، وقد أطلقنا على تلك الجمعية (ندوة الفن الحديث)، ووضعنا ديباجة إلى الندوة”. الندوة تأسست العام 1952. وبحسب العريض فإن الندوة “استطاعت تقديم العديد من الفعاليات الثقافية، بعد حصولها على مقر دائم لها، وذلك بفضل ما قدمه منصور العريض، الذي رأى في هذه الحركة إمكانية تطوير المهارات الفنية على اختلاف أنواعها”.

بعد 4 سنوات من تأسيس ندوة الفن والأدب، وانتهاء أمرها، شرع العريض في العام 1956 في تأسيس أسرة هواة الفن على أنقاض الندوة، واتخذ من دكان في شارع الشيخ عبدالله في المنامة مقراً لها.

المكتبة والأدباء الروس

“في العام 1952 افتتحت مكتبة أطلقت عليها المكتبة الشعبية”. كان يستورد الكتب من دمشق وبيروت. كان نهماً في قراءاته الأدب الروسي. وقتها كان الأدب المهيمن على العالم من حيث قراءته. الفرنسيون ربما يأتون في المرتبة الثانية. وضمن تعدد الاهتمامات التي أشرنا إليها، والانفتاح على الأشكال التعبيرية المتنوعة، منحت العريض تلك القدرة على اقتناص مشروعات ثقافية وفنية وإن لم يستمر بعضها طويلاً إلا أنها كانت إضافة إلى تجربته وحددت كثيراً من مسارات وعيه وخياراته المستقبلية.

وللفتى نصيب من السينما

“في خريف العام 1940 شاهدت أول فيلم صامت في السينما الوطنية، والتي كانت أول دار سينما في البحرين. كنت حينها في السادسة من عمري، في الصف التحضيري الأول في المدرسة الجعفرية”. منحه اهتمامه وتعلقه بالسينما في تلك الفترة المبكرة إضافة لاشك تركت تأثيرها، وليس بالضرورة أن يكون على طبيعة الأعمال التي اشتغل أو يشتغل عليها، وخصوصاً أنه ملتصق بالبيئة المحلية في الجانب التسجيلي لها. الأثر في تنوع وتعدد وعيه بذلك الكم من الفنون والسحر الذي يمكن أن يخلّفه.

التكيّف مع المدارس الفنية

لم ينفصل العريض عن التحولات التي طرأت على المدارس الفنية. لم يظل انطباعياً في توجهه - على الأقل من حيث انفتاحه على التجارب الأخرى. ظل على تواصل مع تلك التحولات والمدارس التي احتلت مساحات كبرى من الاهتمام في عديد دول العالم. كان متكيفاً ومتذوقاً، وفوق هذا وذاك، منحته تجربته الطويلة في الفن وقراءته المتنوعة قدرة على التناول الفني لعدد من الأعمال والدخول في سجالات لم يكن ينتظر الانتصار فيها بقدر حرصه على أن تكون رؤيته هناك ضمن الرؤى المتضادة ... المختلفة والمؤتلفة.

بقي أن نشير، وبحسب موسوعة “ويكيبيديا”، إلى أن العريض شارك في معظم معارض أسرة هواة الفن، وجميع معارض الفنون لفناني البحرين التي تقيمها وزارة الإعلام، ومعارض الربيع التي تقيمها جمعية الفن المعاصر، ومعرض الاتحاد العربي للفنون التشكيلية (الرباط 1976)، ومعرض الفن العربي الثاني (الجزائر 1977)، و‏معرض البحرين بسنغافورة 1981، وبينالي القاهرة، ومعرض السنتين الرابع في الأردن 1984، والمعرض الشخصي الثاني 2002 و 2007م.

فيما حصل على العديد من الجوائز التقديرية، ففي 1984 حصل على جائزة الدولة التشجيعية للفنون، وجائزة الدانة الذهبية في الكويت العام 1999.

في الكتاب فصول من التجربة، والتأسيس والمعارض والمشاركات والجوائز. فيه إضاءة للزمن الجميل الذي نفتقده ببشره وأمكنته وتفاصيله.

كريم العريض  في معرضه الخاص العام 1965
كريم العريض في معرضه الخاص العام 1965
لوحة الفرْضة زيت على قماش العام 1976
لوحة الفرْضة زيت على قماش العام 1976

العدد 4401 - الأربعاء 24 سبتمبر 2014م الموافق 30 ذي القعدة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 3:45 ص

      قليلون هم الرسامون في تعبيرهم

      رحمك الله والدي كنت تعلمنا خطوات الرسم وها أنا افتقدك

اقرأ ايضاً