العدد 4437 - الخميس 30 أكتوبر 2014م الموافق 06 محرم 1436هـ

ما يحيي السياسة وما يميتها

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

من حقّ القطر العربي التونسي أن نعتزّ بطريقة تعامله مع ثورة شعبه، تلك الثورة التي فجّرت الينابيع الصافية في الماء العربي الآسن الرّاكد المتعفن.

فأن يستطيع شعب تونس وقياداته السياسية أن يبحر طيلة أربع سنوات في بحر متلاطم، من خلال ممارسة تجارب الخطأ والصواب والأخذ والعطاء، فإن ذلك يطرح السؤال التالي: لماذا نجح أهل تونس، حتى لو كان نجاحهم نسبياً، ولماذا تعثّر غيرهم، حتى لو كان ذلك التعثّر مؤقتاً؟

الجواب على ذلك التساؤل سيكون مفيداً لو أنه تخطّى المؤقت الظاهر إلى الثابت الأعمق. ولن يكون ذلك سهلاً، ولكنّ أهمية الموضوع تستأهل المحاولة.

أولاً، الأهمية القصوى لوجود المجتمع المدني الناضج الحيوي، الذي لا يقتصر على التّواجد الفاعل للمؤسسات السياسية فقط وإنّما يتعدّى ذلك إلى أن يشمل تواجداً فاعلاً مؤثّراً للمؤسسات المدنية الأخرى من مثل النّقابات العمالية والجمعيات المهنية والحقوقية والتجمعات النسائية والإتحادات الطلابية. وكمثالٍ على ذلك يمكن الإشارة إلى الدور الايجابي البارز الذي لعبته النقابات التونسية على الأخص إبّان الفترة الانتقالية التي عاشتها الحياة السياسية التونسية.

الوجود المجتمعي المدني الشامل الحيوي الملتزم الرافض لدور المتفرّج له أهمية قصوى في ممارسة الحوار والإقناع ومن ثمّ التقريب، في ممارسة الضغط والتهديد لمن يناور بانتهازية، في ممارسة الفضح والثناء، وبالتالي في مساعدة بناء الاتزان والمعقولية في الحياة النضالية السياسية.

ثانياً، وجود ضوابط أخلاقية ووطنية تحكم العلاقات بين القوى السياسية، بحيث يحل التسامح محلّ التعصب، وتعلو مصلحة الوطن على المصالح الفئوية والحزبية، ويتم التعامل مع قضايا المواطنين وأحلامهم بجديّة وكفاءة وعدالة، وليس بالفهلوة والمعارك الدونكشوتية.

وكمثال على ذلك القدرة المبهرة التي أظهرتها القوى السياسية التونسية، بأطيافها الآيديولوجية المختلفة بل والمتضادة، في العمل مع بعضها البعض لإنجاح الفترة الانتقالية وترحيل أية خلافات بينها إلى حين وصول ثورة شعب تونس المباركة إلى برّ الأمان.

منذ انقسامات وصراعات خمسينيات القرن الماضي فيما بين القوى السياسية العربية القومية والإسلامية واليسارية والليبرالية، والتي كان لها نتائج كارثية على مجمل الحياة السياسية العربية في كل الوطن العربي، جرت محاولات جادّة للتقريب بين تلك القوى وإيجاد أرضية مشتركة مقبولة من الجميع. لقد كان الهدف هو إقناع الجميع بأنه عندما يكون وجود الأمة في خطر أو تكون المجتمعات مستباحة وسقيمة وقريبة من الاحتضار، فإن واجب القوى السياسية أن تعلو فوق اختلافاتها الفكرية وخلافاتها التنافسية، وأن تضع المصالح الكبرى فوق كل المكاسب المؤقتة أو الفرعية. لقد أثبتت فواجع السنوات الأربع الماضية أن مثل هذه الممارسة كان يجب أن تحكم الحياة السياسية العربية، على المستوى الوطني والقومي، بل ولسنين طويلة قادمة، وإلاّ فإن الجميع سيخسر، وإلا فإن تضحيات شباب الربيع العربي ستذهب هباءً.

ثالثاً، أن نجاح أو فشل الحياة السياسية في المجتمعات يرتبط إلى حدّ كبير، بنوعية مزاج وروحية وسلوكيات شعوبها. هناك شعوب تتصف بسلوكيات تحيي السياسة، وهناك شعوبٌ مزاجها يميت السياسة. بعض الشعوب تميل سلوكياتها اليومية نحو الفهلوة والمراوغة والكذب فيصاب النشاط السياسي بالسطحية وعدم الجديّة بسبب غياب المساءلة من قبل الناس لمؤسسات السياسة ولقادتها.

وبعض الشعوب سريعة الغضب، قليلة الصبر، تعتبر السَّحل وسفك الدماء رجولةً، ما يقلب الحياة السياسية إلى صراعات وصراخ وحوار طرشان.

بينما تتصف بعض الشعوب بالرقّة والسّماحة والإتزان العاطفي، فتحتقر من يحاول إثارتها أو خداعها، وتنآى بنفسها عن الغلو والمماحكات والانقياد الأعمى في المواقف. عند ذاك ينعكس كل ذلك على الشارع السياسي ليصبح مسالماً وصادقاً مع نفسه، فلا يمارس الفحش في السياسة من خلال ممارسات إقصاء الآخرين وتهميشهم.

الذين خبروا شعب تونس، رجالاً ونساءً، يعرفون أن كثرته تتصف بالكثير من الصّفات الإيجابية الحسنة التي ذكرنا. وهي صفاتٌ فرضت على قادة السياسة في تونس أن يتعاملوا مع الفترة الانتقالية باتزان ومعقولية ورفض للعنف العبثي.

لا يعني كل ذلك أن تونس واحة للحياة السياسية المثالية، ففيها الكثير من الأخطاء والخطايا. لكن فيها مزاجاً ثقافياً وإرادة سياسية يواجهان تلك الأخطاء والخطايا، ويوجدان الحلول المعقولة لها.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 4437 - الخميس 30 أكتوبر 2014م الموافق 06 محرم 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 5:57 ص

      اي ضوابط اخلاقية

      يمتلكها المتاسلمون والاحزاب الاسلاموية الاموية ونحن نرى ارهابهم يعم كل شمال افريقيا والصحراء وبعضا من الدول الافريقية الاخرى ؟ المسالة مجرد وقت وسيفوز المتاسلمون في الانتخابات القادمة وستعود احكام الدواعش الظلامية المتصحرة الى تونس والايام ستثبت صحة كلامي هذا ولنا في تركيا والدول الاخرى افضل مثال , والمسالة مجرد وقت .
      علي جاسب . البصرة

    • زائر 2 | 2:14 ص

      الاختلاف

      كل الشعوب التي لا تتحصن أحزابها السياسية بالفكر السياسي الحر والديمقراطية الحزبية وارث من المادية التاريخية التراكمية والولاء الوطني الصادق وقراءة الوضع السياسي والاقتصادي بصورة علمية لا تصل سوى الى الفشل والخذلان وخسارة المعركة برمتها وجر شعوبها الى التقاتل والعنف. وتونس لديها تاريخ من الخبرة السياسية والفكر الديمقراطي والمدني.

    • زائر 1 | 11:25 م

      rasool

      عزيزنا الدكتور تصف شعب تونس الشقيق من " بعض الشعوب التي تتصف بالرقّة والسّماحة والإتزان العاطفي، فتحتقر من يحاول إثارتها أو خداعها، وتنآى بنفسها عن الغلو والمماحكات والانقياد الأعمى في المواقف."
      ألا ترى أن شعبنا الأقرب للشعب التونسي في رقته وسماحته ووعيه واتزانه؟ أتريد لهم أن يحتقروا محاولات خداعهم وتريد لنا أن نقبل بها دون أن يتحقق أدنى الأدنى من المطالب العادلة؟!!

اقرأ ايضاً