العدد 4510 - الأحد 11 يناير 2015م الموافق 20 ربيع الاول 1436هـ

عصر المراقبة والتجسُّس وهراء الخصوصية!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

تتفنَّن عقول العالم في الطرق والأدوات التي تتيح أكبر قدْر من الخصوصية للفرد. في المقابل تتفنَّن دول، وتنفق عشرات الملايين من الدولارات لاقتناء برامج وأدوات للتجسُّس تجعل تلك الخصوصية هباء منثوراً، وتحت بصر وسمع أجهزة أمنية واستخباراتية، بعضها يكون عابراً للحدود!

بعض تلك البرامج والأدوات تُنتجها دول دفعت أثماناً باهظة قبل أن تصبح «ديمقراطية»، ولا يمكنها أن تستهين بخصوصية الفرد. ومع ذلك لا تنجو تلك الخصوصية من استهداف غير مباشر. من جانب آخر، وخارج حدودها، تظل عينها على السوق الأكبر في عدد من الدول، والشرق خصوصاً، تلك التي لا قيمة أو معنى للديمقراطية عندها؛ وتتعامل مع النقيض لها كما تتعامل مع أي عادة يومية مألوفة وضرورية في الوقت نفسه!

لم تشرِّع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ذلك الهَوَس والتوجُّه المحموم باتجاه التعدّي على خصوصية الفرد، وتعميق الرقابة/ المراقبة والتجسُّس. فقط جعلت الأحداث تلك من الرقابة والتجسُّس أسلوب حياة جديداً، وهذه المرة «لحماية الأمة ومكتسباتها»! وهنا يلتقي الغرب المتقدم، على الشرق المتخلف في تبنّى ورفع تلك اليافطة!

ربما يكون كلاماً متكرِّراً، ولكن لا يمنع ذلك من استعادته والتذكير به؛ إذ في الداخل الأميركي هناك عشرات ملايين الكاميرات في الأماكن العامة ما بعد تلك الأحداث. وفي بريطانيا، أصبحت مراقبة الكاميرات بمثابة الخدمة الخامسة، ذات المنفعة العامة، وهي: الغاز والكهرباء ومياه الشفة والاتصالات؛ بحسب تعبير الصحافي الفرنسي نويه لوبلان في «الكاميرات قصيرة النظر»!

في السنوات القليلة الماضية، منحت الحركات الإسلاموية المتطرّفة والإرهابية، فرصاً عملاقة لكثير من الأنظمة لمراقبة كل شيء، ومراقبة المنتمين واللامنتمين، الذين «مع» والذين «ضد». حدث ذلك في دول كبرى، عمدت إلى ممارسة التجسُّس على أنظمة حليفة لها، سواء داخل الدائرة الأوروبية، أو خارجها، ضمن حدود الأنظمة الاستبدادية!

مليارات المكالمات الهاتفية التي تم التجسُّس عليها لا تقتصر - على سبيل المثال - على الداخل الأميركي وأوروبا والشرق الأوسط، بل طالت معظم دول العالم! وربما علينا هنا التذكير بما صرّح به قبل سنوات مبتكر الشبكة العنكبوتية، السير تيم بيرنرز لي، الذي أطلق الشبكة العنكبوتية العالمية في العام 1990، محذّراً من تنامي «مدِّ الرقابة والتجسُّس على الإنترنت»، معتبراً أن هذا الأمر يهدِّد مستقبل الديمقراطية». وأضاف: «بعض الحكومات تشعر بالتهديد جراء ذلك، وبالتالي أصبحت الزيادة في الرقابة والتنصُّت يهدِّدان مستقبل الديمقراطية الآن».

بقي علينا أن نعرف، أن الموسوعة المتحركة التي لا غنى عنها (غوغل)، وعبْر محرِّكها، تعتبر أكبر «المتجسِّسين»، وإذا خفَّفْنا الوصف سنقول «المراقبين»، بطلب من الحكومات والأنظمة الاستبدادية. الشركة التي تنتشر في أكثر من 219 دولة في العالم، يعمل محرِّك بحثها على تتبّع المخالفات والتجاوزات في المحتوى، التزاماً بالقوانين والتعليمات المتبعة في كل دولة. مراقبة لا تترافق طبعاً مع استدعاء للتحقيق، أو اقتحام للمنازل في الساعات الأولى من الفجر؛ وإنما تكتفي بإزالة بعض محتوى، أو نتائج بحث محرّكها!

وليس بعيداً عن ذلك، ما يمكن أن نقف عليه في كتاب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، «المراقبة والمعاقبة» الذي أصدره في العام 1975، وإن كان يتحدّث هنا عن المجتمع، ولكن آليات المراقبة والتجسُّس اليوم لم تأتِ من الفضاء؛ بل من داخل المجتمع نفسه الذي تتكوَّن فيه تلك المؤسسات المهيمنة على فضاء الناس، وربما نقف على المراقبة تلك في إشارته إلى أن المجتمع الحديث يستخدم هذه الرؤية لتطبيق نظام التحكّم والسيطرة الخاص بالسلطة والمعرفة.

في تاريخنا وتراثنا الشيء الكثير من تلك المراقبة والتجسُّس، ولم يتم الوقوف على الكثير مما تم من رصده؛ لكن في عصور القوة والهيمنة وتمدّد الدولة، تنشأ أساليب من المراقبة والتجسُّس، وإن كانت بدائية إلا أنها تتماشى مع طبيعة عصرها، وتبدأ بتفعيل المراقبة والتجسُّس من داخل بيئاتها المغلقة، قبل البيئات المفتوحة!

حدَّث الشخص المسئول عن التحقيق والتعذيب عند أبي جعفر المنصور، ثاني خلفاء الدولة العباسية، قال: دعاني أبو جعفر ذات يوم، وإذا بين يديه جارية صفراء وقد دعا لها بأنواع العذاب، وهو يقول لها: «ويلك أصدقيني فوالله ما أريد إلا الألفة، ولئن صدقتيني لأصلنَّ الرحم، ولأتابعن البر إليه»، وإذا هو يسألها عن محمد بن عبدالله بن الحسن، (الملقب بـ «النفس الزكية») وهي تقول: «ما أعرف مكانه»، ودعا الدهق (خشبتان يُعْصَرُ بهما الساقُ للتعذيب)، وأمر به فوضع عليها، فلما كادت نفسها أن تتلف، قال: «أمسكوا عنها»، وكره ما رأى. وقال لأصحاب العذاب: «ما دواء مثلها إذا صار إلى مثل حالها»، قالوا: «الطيب تشمّه، والماء البارد يصبُّ على وجهها، ويسقى السويق (طعامٌ يُتَّخَذ من مدقوق الحنطةِ والشعير)». فأمر لها بذلك وعالج بعضه ببعضه حتى أفاقت، وأعاد عليها المسألة فأبت إلا الجحود، فقال لها: «أتعرفين فلانة الحجَّامة فاسودَّ وجهها وتغيَّرت، فقالت: «نعم يا أمير المؤمنين تلك هي بني سليم»، فقال: «صدقت هي والله أَمَتي، ابتعتها بمالي ورزقي يجري عليها في كل شهر، أمرتها أن تدخل منازلكم وتحجمكم وتعرف أخباركم، أو تعرفين فلاناً البقال؟ قالت: «نعم في بني فلان». قال: «هو والله مضابين بخمسة دنانير، أمرته أن يبتاع بها كل ما يحتاج إليه من البيوع، فأخبرني أن أمَة لكم في يوم كذا من شهر كذا عند صلاة المغرب جاءت تسأله خباء وورقا، فقال: ما تصنعين بها؟ قالت: «كان محمد بن عبدالله في بعض ضياعه بناحية البقيع وهو يدخل الليلة فأردنا هذا ليتخذ منه النساء ما يحتجن إليه عند دخول أزواجهن من الطيب». قال: فأسقط في يدها وأذعنت بكل ما أراد.

من قبل، كانت للدول والعصور طرقها وأساليبها في المراقبة والتجسُّس، ونحن اليوم إزاء عصر يمكن أن يطلق عليه بامتياز: عصر المراقبة والتجسُّس، ودعْكمْ من هُراء حق الشخص في حريته الفردية والخصوصية!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4510 - الأحد 11 يناير 2015م الموافق 20 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً