العدد 4513 - الأربعاء 14 يناير 2015م الموافق 23 ربيع الاول 1436هـ

الذين يخافون من النور

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في الليل الخِرمْس تغيب روعة الألوان. وفي نهار الهَجِيْر ينحسر النظر. وعند جائحة الجهل يغيب العلم. وحين يستحكم الحُمْق يُظلَم العقل. وعندما تشتد الفوضى لا تُسمَع الأصوات الجميلة. وفي لحظة انهمار الطعام في الأفواه يموت التذوُّق. هذه قواعد العلاقات العكسية التي تحكم حياتنا.

لكن التساؤل الذي يُطرَح أمام تلك القواعد: ماذا لو غيَّرنا من معالمها، بحيث يكون الهدف ليس رؤية اللون كغاية كَمَاليَّة، بقدر أهمية ضرب الظلام بالنور كهدف أسمى. بمعنى: ماذا لو أشعلنا شمعةً في الظلام، فهل سيُزاحم ضوؤها ذلك الظلام ليُبدِّد كثيراً من سواده؟ الأكيد أن ذلك يحصل. فالضوء، القليل يخترق الظلام الكثير ولو عن بُعد.

أيضاً، ماذا لو انتشل عالِمٌ جاهلاً «واحداً» من بين براثن الجهل، وليس استيعاب كامل الدهماء فهل تعجز حُجَّة العالِم أن تخرق حُجُب الجاهل لتستقر في عقله وقلبه؟ الأكيد أنه لن يعجز عن ذلك. والأهم أنه قَضَمَ شيئاً من ذلك الجهل، الذي وفي أحيان كثيرة لا تموت جذوته إلاَّ بضرب أجزائه، وقَصْقَصَةِ أطرافه، وسلب أعداده وإلقَامِ أفواهه.

أيضاً، المعركة لا تبدأ ولا تنتهي بالدرجة ذاتها، وبالتحديد في مجال صراع الإرادات وتثبيت الأفكار. لذا فإن التساؤل هنا قائم أيضاً: ماذا لو لُجِمَ الأحْمَق، بفقأ عين مسلكه بالحجة، فما الذي يمنع العاقل حينها من أن يكسب موقعه بدلاً عن الأحمق؟

وماذا لو وُوجِهَ الجَلَبُ وُوجِهَت الفوضى بإعادة السيطرة على نظام محيطها، وربط أجزاء مجموعها بما هو أكثر من عددها وعِدَّتها فهل ستفشل الآذان في الاستماع للتَّرنِيم؟ الأكيد لا. هذه المعادلات المنطقية «جداً» تنطبق كذلك على غيرها من النماذج والأشكال.

لذا: ماذا لو أسقطنا تلك المعادلات على الكتابة، والموقف مما تُنتِجه الأقلام من أفكار على صفحات الجرائد أو في بطون الكتب، فما الذي سنكتشفه فيها؟ الأكيد أننا سنرى النتائج ذاتها.

فالأقلام التافهة تكتب على الماء لا أكثر، رغم كثرتها ورغم ما تحظى به من أموال السياسة القذرة. أما الأقلام الحرَّة والمسئولة فهي تنحت في الصخر رغم قلتها. كما أنها لا تعبأ لأن ليس من مسئوليتها أن تُقيِّم المعركة بينها وبين التافهين لا بكثرتهم ولا بِقلَّتهم، بل إن مسئوليتها الوحيدة هي أن تكتب. لأنها وحين تكتب فهي تحفر، وعندما تحفر فهي تؤسّس، وعندما تؤسّس فهي تنشر الوعي والنور.

الكتابة الحرَّة ليست صرخةً في التِّيْه كي يبتلعها امتداد المكان، بل إن كل فكرة تُنتجها تلك الكتابة تُحطِّم آلاف الأقلام التافهة. فعندما تخلو الأفكار من حجج ومنطق تصبح مثاراً للسخرية عند أصحاب الفكر والضمير، حتى ولو كانت بملايين الكلمات والنقود.

تذكّروا جيداً، أنه لو اقتُطِعَ مقالٌ تافهٌ كُتِبَ على أثير الشتيمة، ونُشِرَ في أية صحيفة ملتزمة، سواء في الشرق أو الغرب، لتُهُكِّم من تلك المادة المنشورة، وربما تعرّضت الصحيفة لانتقادات ومحاسبة قانونية.

حتى رجال السياسة ممن لا يؤمنون بالحكم العادل، عندما يريدون نشر مقالٍ لهم في صحف عالمية، فإنك تلحظ جيداً كيف يقومون بانتقاء الألفاظ والعبارات التي تُقدِّمهم على أنهم من الداعمين للحقوق والحريات، وإقرار العدالة، ومحاسبة المتجاوزين. هم يفعلون ذلك لأنهم يُدركون أن مقالاً يُكتَب بِمِداد الهراء والشتيمة ليس له حظ هناك.

بل وفي أحيانٍ كثيرة، تتم دراسة جمهور الصحيفة نفسها، وتوجهات التحرير، إن كانت يمين «الواشنطن تايمز وماكور ريشون مثالاً» أو يمين وسط «الديلي ميل وجيورنالي مثالاً» أو يسار «الغارديان وإيدنليك مثالاً» أو محافظة «ألفيغارو وناشونال بوست مثالاً» أو قومية «الإس إيه توداي مثالاً» أو لصيقة بمراكز صنع القرار «نيويورك تايمز ونوتر فوا مثالاً» كي يتم ضبط المكتوب واستشراف تأثيره. هذه ثقافة الصحافة الملتزمة كما عَهِدها العالم.

أمر آخر يجب أن أشير إليه هنا يتعلق بموقع الأقلام التافهة في الرأي العام. فمن الأشياء التي يجب أن نذكرها وسجَّلها التاريخ، هي أن التمدن وتطور الحياة اليومية للناس وانحسار الأمية وزيادة انتشار الصحف وترسُّخ التعليم، والانفتاح في وسائل الاتصال، وتجفيف التعصب الديني والطائفي، قد جعل من تأثير الأقلام التافهة أمراً صعباً.

فالزمن والتجربة كفيلان بأن يجعلا الناس على قاطرة الصحوة، وإدراك حالة الخداع. هذا الأمر حصل في عدة أماكن وخلال فترات متوالية، كان آخر ما حصل في كينيا على سبيل المثال، عندما جُيِّرت بعض الأقلام والأفواه لتلميع السلطة والتحريض على مخالفيها.

أيضاً، فإن من الأشياء الواجب ذكرها هنا هي أن أصل عمل تلك الأقلام مرتبط بالمزايا، وبالتالي فهي بعيدة عن أي تعلق بالقضايا الأخلاقية. بخلاف الأقلام الحرَّة التي مجالها الأول والأخير هو قضيتها والتزامها بها.

السواد الأعظم من الذين ارتبطوا بمثل تلك المشاريع دخلوا في صراعات داخلية مع المحيط نفسه الذي ينتمون إليه. وربما كان الاطلاع على سِيَر العالم الخفي للتجارب السياسية الفاشلة، يمنحنا رؤية ذلك بوضوح.

خلاصة القول، أن الظلام بسواده الممتد، ستُبدِّده شمعة واحدة. وأن الجهل لن يستطيع أن يمنع العلم عن اختراقه. وأن الحُمْق سيعجز أمام العقل. فلم يعد هناك عالم يقبل إلاَّ بهذه النتائج.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4513 - الأربعاء 14 يناير 2015م الموافق 23 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 2:36 ص

      ما أروع قلمك ..

      أجد نفسي أمام كاتب أديب عندما أقرأ مقالاتك
      أنار الله دربك

    • زائر 2 | 12:23 ص

      خلاصة

      الظلام بسواده الممتد، ستُبدِّده شمعة واحدة

    • زائر 1 | 10:52 م

      رد جميل

      لقد داويتها بالتي كانت هي الداء والبيب بالاشارتي يفهم

اقرأ ايضاً