العدد 4557 - الجمعة 27 فبراير 2015م الموافق 08 جمادى الأولى 1436هـ

مهنة النجارة... بين حنين الماضي وحداثة الحاضر

أحمد علي الجفيري-الحاج علي أحمد الترانجة-الحاج محمد تمام
أحمد علي الجفيري-الحاج علي أحمد الترانجة-الحاج محمد تمام

بين تعالي دقات المطرقة وانخفاضها، واصطفاف المسامير المعدنية المتداخلة في مكانها، تصدر موسيقى تحكي مرارة الحياة ممزوجة بهندسة متقنة ترسم زخارف مكتملة تروي قصصاً مختلفة كل يوم حاملة في أنحائها الفرح والحزن، حيث تداري القطع الخشبية كل هذا العناء، فتحتضن في جسدها أسراراً وتخبئ في ثناياها واقعاً يمتد من سنوات انصرمت لتؤكد للأجيال القادمة معنى أن تمارس الإبداع في زمن انتهى ولكنه حاضر في الذاكرة.

خلف مركز النعيم الصحي يمتد شارع طويل يحمل محلات تجارية متنوعة من حيث الشكل والحجم والمضمون، فتنفلت عيناك انجذاباً إلى مقاعد وأبواب خشبية حديثة الصنع تحمل العلامة البحرينية التجارية الأصلية، خلفها تتوارى ابتسامة عذبة يكسوها عبق الماضي وجمال الحاضر. التقينا على مسافة قريبة من القلب إلى رجال عشقوا مهنة الصعاب وحفروا أسماءهم في التاريخ مثلما حفروها في أبواب صنعوها منذ زمن.

يحكي لنا الحاج علي أحمد علي الترانجة والابتسامة لا تفارقه أنه بدأ مهنة النجارة منذ العام 1961 مع والده إذ كان عمره إحدى عشرة سنة، فقد كان يذهب إلى المدرسة ومعلم القرآن وبعدها يتجه إلى ورشة أبيه لتعلم فنون النجارة، ولشغفه بهذه المهنة ترك التعليم النظامي في المدرسة الشرقية في المنامة آنذاك.

يفرد ابتسامته ويقول: إنها مهنة ورثها من أجداده الذين كانوا يعملون في صناعة السفن والنجارة في آنٍ واحد. فهو لم يتعلمها بطريقة سهلة، فكان والده المرحوم يقسو عليه لكي يتعلم بشكل ممتاز على أن ينجز مهمته بسرعة كبيرة دون تباطؤ، وكما قال على حد تعبيره بضحكة هادئة «آسته آسته»، وذلك حتى يستطيع أن ينجز الطلبيات الكثيرة على الأبواب وإطارات النوافذ التي كانت بشكل يومي، إذ إن الورشة فيما سبق تعجّ بالحركة اليومية الدائمة حيث كانت تستقبل طلبياتها من كل مكان لا يقتصر على البحرين فقط وإنما خارج البحرين لا سيما السعودية وقطر.

يتمم قائلاً: «إن موقع هذه الورشة قارب عمره على الأربعين سنة، ففي السابق كان موقع الورشة في سوق النجارين في المنامة بالقرب من محلات بوخماس التجارية، إذ كان يشترك معهم سوق الأسمنت والجص ومواد البناء، بالإضافة إلى الحمير الذي كان وسيلة النقل آنذاك تستخدم لنقل البضائع والشاحنات التي لا يزيد عددها على عشرة تكون في الفرضة ورجال أشداء يحملونها على أكتافهم متحملين عناء المشقة والتعب من أجل لقمة عيش كريمة».

يردف قائلاً: إن العمل كان بشكل يومي مستمر لا ينقطع ابتداءً من الساعة السادسة صباحاً إلى السادسة مساءً أي اثنتي عشرة ساعة متواصلة من العمل الدؤوب الذي يستهلك كثيراً من الجهد والطاقة من دون الرجوع إلى المنزل للراحة، فقد كان تناول وجبة الغذاء في الورشة بجانب العدة التي تتكون من مطرقة ومسامير مختلفة الحجم، فقد كانت تخلو من الآلآت الصناعية التي تسهل عملية القطع، وإنما اليد هي الآلة المتقنة التي تصنع وتنجز أفضل النقوش والزخارف، فجدّه الحاج عبدالله الترناجة الأول في البحرين في هندسة الزخارف باليد، فهو قد أهدى قبل سنوات مضت باباً خشبي يسمى باب السلطان لمزار الإمام الحسين بن علي (ع) في العراق ومازال حاضراً في ذاكرة الزائرين من شتى بقاع العالم.

يقول الحاج بأن الخشب تغير فظهرت أنواع جديدة مثل المرنتي والريد ويت الأحمر ولكن يبقى سيد الأخشاب هو الساج الذي يعتبر الأفضل إطلاقاً، فقد كان خاله الحاج ملا مهدي الترناجة الوكيل في عملية باستيراد كل أنواع الأخشاب من الخارج، إضافة إلى ذلك فتغير الزمن أدى إلى مضاعفة الأجور وارتفاع سعر المواد المستخدمة في النجارة، ففي ما مضى كانت أجرة العامل المتزوج في اليوم الواحد خمسمئة فلس أما الآن فقد بلغت عشرة دنانير.

يفرد وجهه راسماً ابتسامة قائلاً: على رغم شقاء هذه المهنة وصعوبتها وخطرها إلا أنه لا يجيد أن يمارس مهنة أخرى ولا يريد أيضاً لأنه عشقها منذ نعومة أظافره، فهي مهنة اشتهر بها البحرينيون منذ القدم في الخليج وهي مصدر فخر بالنسبة إليه.

يروي لنا الحاج أحمد علي الجفيري ذكرياته والابتسامة لا تفارق محياه، أن هذه المنطقة كانت تعجّ بحركة صناعة السفن التي اشتهر بها أهل قرية النعيم فكان الجميع يتقنها كباراً وصغاراً وتتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل مصطحبة روح التعاون والأخوة بينها، لاسيما عندما يتشاركون عناء التعب والضحكة في أشد الأيام بنفجان من القهوة العربية في كل صباح ومساء.

يسرح بخياله ليحكي لنا بداياته فهو قد تتلمذ على يد ثلة من أمهر النجارين والقلافين في قرية النعيم، حيث بدأها وعمره لا يزيد على الثانية عشرة سنة ونيف، فكانت البداية صناعة السفن ولكن سرعان ما نزل الطلب عليها فتوجه إلى عدد من الشركات للعمل فيها، منها شركة محمد طاهر آل شريف، وبعدها انتقل إلى الجفير للعمل في البحرية الأميركية، حيث كان يذهب من قبل أذان الصبح من النعيم إلى الجفير ماشياً على قدميه ومن ثم يرجع قبيل المغرب إلى حيث مقر سكنه في النعيم.

يضيف قائلاً: «إن الكثيرين ممن يشتبه عليهم المعنى بين النجارة والقلافة، فشتان بين ذا وذاك، صحيح أنه في كلاهما تتوجب المهاراة والتركيز في استخدام الأدوات ولكن تبقى صناعة السفن أي القلافة مهنة شاقة تتطلب استخدام اليد والمطرقة بحرفية عالية وركوب السفينة مستويات عدة إلى أن تكتمل وتصبح جاهزة للإبحار إلى أي مكان فتطلق عليها اسم «اللنجة»، التي يشتهر صناعها من البحرين تحديداً قرية النعيم، فهي مهنة مورست من منذ زمن بعيد، قبل ظهور السفن البلاستكية اليوم».

يبتسم ويكمل «النجارة فن أيضاً ولكنه لا يساوي شيئاً مقارنة بالقلافة، فالنجارة تستخدم فيها الآلآت الحديثة كمساند إضافي ينجز العمل بسرعة».

ويقول إنه في السابق يزدحم العمل في الورشة وتكثر الطلب على الأبواب والنوافذ من قبل الناس من جميع مناطق البحرين، فرغم تعرضه لإصابة في قدمه جعلته مقعداً، فإنه يؤكد أن جميع أيامه في هذه المهنة حلوة لا يعتريها المر وخصوصاً أنه عمل مع ثلة من أصدقائه المرحومين ومن أبرزهم: الحاج خليل المرخي وأبناء عائلة الترناجة.

يكمل حديثه: فيما سبق أن الأخشاب قبل خمس وعشرين سنة زهيد سعرها مقارنة باليوم الذي تضاعف مرتين عن السابق وخصوصاً خشب «المرنتي»، وكذلك مواد الدهان والمسامير، وحتى المدخول انخفض عما سبق، بسبب دخول منافسة الألمنيوم في صناعة الأبواب والنوافذ، وكذلك الصناعات المستوردة من الصين وسنغافورة وماليزيا التي راجت في مجال نجارة غرف النوم.

يحدثنا شريكه الحاج محمد تمام أنه بدأ عمله في ورشة أبيه التي كانت مكان مركز النعيم الصحي حالياً، فيساعده منذ كان عمره اثنتي عشرة سنة في صناعة السفن، ثم ضعفت سوق السفن فاتجه إلى النجارة في ورش عبدالله ناس، وبعدها انتقل مع مجموعة من الأصدقاء القلاليف والنجارين إلى شركة ألمنيوم البحرين (ألبا) في قسم الصيانة وذلك بطلب من مسئول بريطاني في فترة الاستعمار آنذاك الذين كانوا يتعاملون معهم بكل احترام.

ويضيف «اليوم لم يعد هناك جو بارد لنخاف على الأخشاب، ففي الماضي عندما تشتد برودة الجو نقوم بوضعها في مكان آمن كسطح مغطاة بأسقف مصنوعة من الحديد «الچينكو» لتلافي فسادها وخرابها جراء الرطوبة التي تتسرب من الأمطار الشديدة».

يكمل حديثه قائلاً: إن لمكوثه في هذه الورشة ما يقارب الثلاثين عاماً، فقد شهدت تصميم غرف نوم متناغمة بأجمل الأحجام والزخارف، وكذلك الأبواب، حيث تكثر الطلبيات عندما يتسلم رب الأسرة أجرته نهاية الشهر، أما الآن فالطلب منخفض جداً، إلا ما ندر كمثل إطارات الأبواب والكراسي المستخدمة في المقاهي الشعبية.

يضيف مفتخراً «هذه المهنة لا أستطيع تركها وأنا أرى صناعتي باقية على رغم هجرتها من قبل الشباب اليوم واستبدال الورش بالعمالة الآسيوية التي لا تتقن الصنع كمثل أبناء البلد»، يشير بيده إلى ضفة أخرى مبتهجاً قائلاً: «مازالت هناك أبواب باقية تحمل اسمي وخصوصاً في قريتي، كأبواب المآتم الحسينية مثل مأتم الشباب من خشب الساج الذي يتضمن عدة نقوش متميزة».

إحدى ورش النجارة في النعيم
إحدى ورش النجارة في النعيم

العدد 4557 - الجمعة 27 فبراير 2015م الموافق 08 جمادى الأولى 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 11:19 ص

      نفسي اتعلَّم النجارة

      السلام عليكم
      ابي اتعلَّم النجارة وين ممكن احصل ورشة اتعلَّم فيها و مركز او معهد. اعشق الحرف اليدوية والعمل اليدوي انا من السعودية بس ما لقيت محل يعلمني في السعودية

    • زائر 7 | 12:49 م

      .

      لحاج محمد تمام من رجالات النعيم الذين عملوا في صناعة السفن القلافه و النجاره و برعا فيهما وكان مهندسا من الرعيل االاول و بصماته لاتزال موجودة في بيوتات لنعيم في المنطقه وبيوتات أهالي النعيم خارج المنطقه وكذلك دور العبادة و هي لا تزال تشهد له بالمهارة و التصميم الفني المعماري.

    • زائر 4 | 1:59 ص

      النعيم

      النعيم قلب العاصمة كيف تسميها قرية

    • زائر 5 زائر 4 | 3:44 ص

      النعيم قرية

      النعيم من ضواحي المنامة لكنها قرية او فريق مثل مشبر، الحمام، الفاضل، المخارقة.
      فماذا تريد ان يسميها الكاتب؟!

    • زائر 3 | 1:38 ص

      انتم فخر للبحرين

      والنعم فيكم يا آبائي لقد تربينا بينكم وبين هذه المهنة التي نفتخر بها نحن اهالي النعيم فرحمة الله على الماضين واطال الله عمر الباقين .

    • زائر 2 | 1:09 ص

      الله يحفظ الباقين

      اهالي النعيم الشرفاء امتزجت رائحة الخشب بأجسادهم ونعم الرجال

    • زائر 1 | 1:07 ص

      الله يحفظ الباقين

      الله يرحم اجدادنا وابائنا ويحفظ الباقين .تعبوا كثيرا

اقرأ ايضاً