العدد 4591 - الخميس 02 أبريل 2015م الموافق 12 جمادى الآخرة 1436هـ

طاولة تشارلز ديكنز

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

نشر خبر صغير قبل أيام عن مزاد علني نُظّم في لندن لبيع الطاولة التي كتب عليها الروائي البريطاني الشهير تشارلز ديكنز، رواية «آمال عريضة»، بمبلغ 433250 جنيهاً استرلينياً (850000 دولار).

وبإجراء حساب بسيط، حوَّلتُ المبلغ إلى العملة البحرينية، فكان الناتج 321.300 دينار، وهو مبلغٌ يوفّر ثلاث قطعٍ من الأراضي متوسطة الحجم في أي منطقة من البحرين هذه الأيام. ومع ذلك فإن هذه الطاولة تستحق مثل هذا المبلغ، عند من يقيّم الفن ويعتز بالأدب الإنساني الرفيع.

الشخص الذي فاز بالمزاد هو رجل أعمال أيرلندي اسمه توم هيجنز، وقد تحدّث بفخرٍ في مكالمة هاتفية مع «رويترز» قائلاً: «إنها جزءٌ من تشارلز ديكنز، لذا فإنه لمن دواعي سروري أن امتلكها. أنا من هواة ديكنز منذ زمن طويل وأرى حقاً أنها تساوي أكثر كثيراً مما دفعت، وتوقعت أن تصل إلى خمسة ملايين جنيه».

ووصف هيجنز السعر الذي اشترى به الطاولة بأنه «ثمن بخس، بالنسبة لقطعة تاريخية أدبية مثل هذه الطاولة»، وهو محقٌّ في ذلك بالنسبة لمن يعرف ديكنز. فالنقاد يجمعون على أن ديكنز من أعظم الروائيين الإنجليز في العصر الفيكتوري (القرن التاسع عشر). فأدبه مشبعٌ بروح إنسانية عميقة، ضمنت له الخلود، حيث لايزال يُترجم لمختلف اللغات، وتقرأه الشعوب في مختلف القارات.

عاش ديكنز لأسرة كبيرة، ربها موظف بسيط، يعول ثمانية أطفال، وأدخل السجن بسبب تراكم الديون عليه، فاضطر الصبي ديكنز للعمل مبكراً، وفي شبابه عمل مراسلاً صحافياً، يغطي أخبار المحاكم، ومن الصحافة وجد طريقه في الحياة، مع بدايات انطلاق الثورة الصناعية في بلاده، وما رافقها من تحولات وتفكك أسري، ومآسٍ اجتماعية كبرى، بسبب انتقال نصف البريطانيين من القرى والأرياف، للعمل في المدن الصناعية، التي أصبحت بفعل الهجرة محاطةً بأحزمة الفقر والبؤس والشقاء.

من هذه البيئة استمد تجاربه وانتشل شخصياته التي بقيت خالدةً في مخيلة القراء، وربما أعظمها وأكثرها تأثيراً صورة «أوليفر تويست»، الطفل الذي ترافقه من الصفحة الأولى للرواية التي تحمل اسمه، حيث تسلم أمه الروح على سرير المستشفى. وهكذا يجد نفسه ملقىً به وحيداً في الحياة، يعاني الجوع والتشرد والمعاملة القاسية والإذلال، منتقلاً من يدٍ غليظةٍ إلى أخرى، ليستقبل في كل مكان يطؤه اللطمات والصفعات. وفي الملجأ كان الأطفال الجوعى يتصارعون على الطعام القليل الذي يقدّم لهم، وحين يتجرأ بعضهم على طلب حصة أكثر يعاقب بالحبس.

وحين طلب أوليفر زيادة ذات يوم طعاماً أكثر ليشبع جوعه، ضربه الطباخ على رأسه بمغرفة الطعام، وشكاه إلى الإدارة التي سرعان ما نشرت إعلاناً لتتخلص منه بإلحاقه بأي عمل في الخارج وهو طفل هزيل شاحب الوجه، لا يتعدى عمره تسع سنوات. وحين التحق بخدمة أسرة قدّمت له ربة البيت بقايا ما كانت تقدّمه لكلبها من طعام، فالتهمه كمن لم يأكل طعاماً قبل عام.

من حياة الفقراء استلهم ديكنز قصصه الخالدة، ومنها كان نقده اللاذع للأوضاع الإنسانية المزرية، وحملاته على المسئولين عن المدارس والسجون ومياتم الأطفال البؤساء المشردين. وقد أسهمت كتاباته في تحسين أوضاعها، بل والدفع باتجاه تعديل القوانين والتشريعات.

كان ديكنز كاتباً إنسانياً، أثر في زمانه، وأسهم في تغيير أوضاع مجتمعه نحو الأحسن، ولو لم يكن لديه من الشخصيات التي خلقها غير أوليفر تويست لكفاه.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 4591 - الخميس 02 أبريل 2015م الموافق 12 جمادى الآخرة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 8:26 ص

      من الذكريات مع ديكنز

      أروي لكم هذه الحكاية التى قرأتها منذ أربعين سنة حيث لم يتجاوز عمري 12سنة. عن الأديب الإنساني ديكنز. حيث يذهب مع صنارته للبحيرة وعندما يصطاد سمكة يتألم لمنظر السمكة وهي في الصنارة فيرجعها للبحيرة وقبل رجوعه للمنزل يمر سوق السمك ليشتري السمك حتى لا يغضب ابيه او والدته الا يستحق ان يرفع الخليجي عقاله او الخواجه قبعته اقصد الخواجه الأجنبي وليس اللي في بال القارئ مكي صليل

    • زائر 2 | 2:53 ص

      مقال انساني رائع

      نتمنى ان كل انسان يكون مصلح اجتماعيا لبيئته بعيدا عن العنصريه ويعمل للانسان ومن اجل الانسان فقط لنرتقي للامام

    • زائر 1 | 12:07 ص

      إنها ثورة اصلاح بالقلم

      ما أجمل بالانسان ان يحاول اصلاح شيء وان يفني عمره في اصلاحه ولاجله. الكثير من الاشياء لم يصحلها السياسين ان لم يكونوا سبب دمارها - اصلحها الادباء .. واصلحها اصحاب القلم المعطاء ..

اقرأ ايضاً