العدد 76 - الأربعاء 20 نوفمبر 2002م الموافق 15 رمضان 1423هـ

صناعة القطائف الرمضانية في لبنان منشؤها عربيّ قديم ... لا تركيّ

حين يقف اللبناني حائراً أمام ظاهرة تراثية، لا يدري لها منشأً ورحلةَ انتقال، فإنه يوفر على نفسه المشقة ويكتفي بقول القائلين: إن منشأ هذا أو ذاك تركي، انتقل إلينا أيام «السفر برلك»... ولا شأن لنا بمن هم في المقلب الثاني، العارفين، الغاضِّين النظر عما يعرفون، القائلين ـ مع ذلك ـ بمنشأ فينيقيّ لهذا الموروث أو ذاك!

وأما القطائف، وهي أقلّ شأناً من العمائر الأثرية، فيكتفي اللبناني بأن يقول: هي تركية الأصل، انتقلت إلينا خبرات صنعها مع أسلافنا الذين «خدموا عسكرتهم» في تركيا. فهل هذه حقيقة القطائف؛ الحلوى الأكثر استهلاكاً في رمضان المبارك؟

محمد خاسكية، الحلواني الذي يصنع القطائف في صيدا، في محل مؤقت يستأجره في رمضان، «لا يحمّل ذمته» وزر ما لا يعرف، ويكتفي بالقول: «أنا لا أعرف بالضبط تاريخ القطائف... لا أعرف من أين أتت... كل ما أعرفه منذ صغري أن القطائف موجودة هنا... وها أنذا أتجاوز الخمسين، والقطائف لاتزال موجودة».

ولكن محمد خاسكية يعرف تقنيات صنع القطائف، ويجيدها، وقد ورثها عن الآباء والأجداد، وإن كان لا يصنعها إلا في رمضان كما يقول: «وأصنع معها عجينة العثلمية، وعجينة المدلوقة، وعجينة الكنافة، والقشطة البلدية... وأنا أقدم معها علبة قطْر مجاناً»... ولاحظوا معنا أن إشارته إلى مجانية علبة القطر من قبيل «الدعاية» للمحل!

أمام محل محمد خاسكية، وأمام محلات كثيرة غيره، ثابتة كانت أم مرتجلة في مدخل عمارة أو على رصيف، يتجمع الناس، خصوصاً قبل وقت الإفطار بساعة؛ فالقطائف تؤكل طازجة، ولا يجوز بيع خبزها البائت الذي يتفتت ولا يلتصق عند حشوه بالقشطة أو المكسرات... وهذا الإقبال يفسره أن القطائف حلوى طرية، حافلة بالمذاق الطيب وما يختزن قيمة غذائية عالية ولاسيما القشطة المصنوعة من الحليب البقري الطازج، والجوز المسحوق أو الفستق الحلبي، أو اللوز... وأما القطائف ذات الأحجام الكبيرة فتحشى جبنة، وتطبخ في الفرن.

نعم! فالقطائف أحجام، وأشهرها القطائف الصغيرة المسماة «عصافير»، وهذه تحشى قشطة طازجة وتؤكل نيئة مع الفطر أو العسل. تليها القطائف متوسطة الحجم، وهذه تحشى مكسرات وتُقلى بالزيت حتى تحمّر، وتقدم بعد القلي محلاةً بالقطر. وأما القطائف الكبيرة فتكون طبقتين، كل طبقة خبزة مستديرة تملأ صينية عادية، وبين الطبقتين حشوة من جبنة أو قشطلية كالسحلب الجامد، وهي تطبخ في الفرن ثم تقدم محلاة بالقطر أيضاً.

هذا ما يعرفه صانعو القطائف والمستهلكون معاً... فماذا عن مكونات القطائف وتقنيات صنعها؟

يقول خاسكية إن القطائف تصنع من الدقيق المعروف بـ «الطحين الإكسترا الفقس» (اقرأها: أي نوع من الطحين)... «نعجن الدقيق بواسطة عجانة فيها خفاقة، ونضيف إليه كربونات الصودا والخميرة، ونجعله سائلاً بحيث يسهل مروره من فتحة المصبّ الخاص بخبز القطائف».

وعجينة القطائف المائعة تصب دفعات متتالية محسوبة، وفقاً للأحجام المطلوبة، على صحيفة معدنية تسخن بواسطة الغاز، وتفترض خبرة ودراية وانتباهاً، وإلا احترقت، أو سلخت غير ناضجة. فهل تستطيع ربات البيوت صنع القطائف في المنازل؟... يجيب خاسكية بصراحة: «ربة المنزل تستطيع ذلك... في إمكانها وضع بلاطة رخامية على الغاز، وخبز الأقراص منفردة قرصاً بعد قرص... نحن هنا نخبز القطائف بالجملة... وولكن مَنْ مِنْ ربات البيوت يصبر على صنع القطائف؟! إنهن يجدن القطائف جاهزة في المحلات... وبلا وجع رأس وتضييع وقت».

مرة أخرى: هل يعرف محمد خاسكية منشأً عربياً للقطائف؟... مرة أخرى يجيب بالنفي. غير أن حلوانيين آخرين في بيروت استسهلوا القول إن القطائف تركية المنشأ... ربما صح ذلك باعتبار تنقل الخبرات، كأن القطائف العربية قد بلغت تركيا ثم عادت منها إلى أقطارنا العربية.

والواقع أن في المصادر ما يؤكد قدم القطائف، وأنها كانت غالباً صناعة في الأسواق لا البيوت، ولذلك كانت تحت رقابة المحتسب، حتى لا يتطرق إليها غش.

فما رأيكم ـ ابتداءً ـ بالبحث عن منشأ لغوي للتسمية؟

التسمية في المعاجم القديمة، وهي تسمية تعبر عن نعومة في القطائف تشبه النعومة في قطيفة المخمل؛ يقول الجوهري في صحاحه: «والقطيفة: دثار مخمل، والجمع قطائف وقُطُفٌ أيضاً، ومنه القطائف التي تؤكل» (الصحاح ـ قطف).

وجاراه بعد قرون من الزمان لغوي آخر، موسوعي، هو ابن منظور الذي عاش في القرنين السابع والثامن الهجريين (630 ـ 711هـ/ 1232ـ1311م)؛ قال: «والقطيفة: دثار مخمل، وقيل كساء له خَمْل، والجمع القطائف وقُطُف (...)؛ ومنه القطائف التي تؤكل»، ثم ينقل عن «التهذيب» قوله: «القطائف طعامٌ يسوّى من الدقيق المُرَقِّ بالماء، شبهت بخَمْل القطائف التي تفترش» (لسان العرب ـ قطف)... إذاً، فقد كانت هذه حالها منذ القدم: دقيقاً مرقاً بالماء.

وفي المصادر أخبار عن القطائف موغلة في القدم، ومنها ما وقع لجحظة البرمكي مع قطائف بائتة؛ وجحظة هذا ولد سنة 224 هـ (838م) وتوفي سنة 324 هـ (935م)... ينقل الدكتور نايف معلوف عن مصادره، هذا الخبر: «قال جحظة البرمكي: سلَّمتُ على بعض الرؤساء، وكان مبخَّلاً، فلما أردت الانصراف، قال: يا أبا الحسن «إيش» تقول في قطايف بائتة؟ ولم يكن له بذلك عادة، قلت: ما آبي ذلك. فأحضر لي جاماً (وعاءً) فيه قطايف قد خمَّت، فأوجفت (اضطربت) فيها وصادفت مني سغبةً (جوعاً)، وهو ينظر إليَّ شزراً، فقال لي: إن القطايف إذا كانت بجوز اتخمتك، وإذا كانت بلوز أبشمتك، قلت: هذا إذا كانت قطايف، وأما إذا كانت مصوصاً (أي لحماً منقوعاً بالخل) فلا. وقلت لوقتي:

«دعاني صديقٌ لي لأكلِ قطائفِ

فقال وقد أنضجتُ بالأكلِ قلَبهُ:

فقلت له: ما إن سمعنا بميتٍ

فأمعنتُ فيها آمناً غير خائفِ

ترّفقْ قليلاً فهي إحدى المتالفِ

يُنَاحُ عليه: يا قتيلَ القطايفِ».

فلو كانت قطائف صديق جحظة معروضة في الأسواق، فعلى الأرجح أن عين المحتسب لا تخطئها، وأن صانعها لا يسلم من التعزير؛ فهذا ابن بسام المحتسب يطلعنا على أساليب الغشاشين في غش القطايف، فيقول في «باب الحلوانيين وغشهم» من كتابه «نهاية الرتبة في طلب الحسبة»: «وفي حشو القطايف أيضاً يسقى خبزه بالماء الحار حتى لا يشرب الذهن؛ وكذلك القطائف المقلي يغش حشوه بالدقيق، ويسقى بنحل القند عوضاً عن عسل النحل» (ص 351 ـ 352، من طبعة دار الحداثة في بيروت).

ويشرح محمد بن محمد بن أحمد القرشي (648هـ/ 1311م) في كتابه «معالم القربة في أحكام الحسبة» ما يشترط في الحلوى والحلوانيين، وضمناً في القطايف والقطايفيين، فيقول: «الحلواء أنواع كثيرة وأجناس مختلفة ولا يمكن ضبطها بصفة واحدة، وعيار أخلاطها على قدر أنواعها مثل النشاء واللوز والفستق والخشخاش وغير ذلك. وقد يكون كثيراً في نوع قليلاً في نوع آخر، وإنما يُرجع في ذلك كله إلى العرف، ونذكر ما اشتهر منها وهي المقرَّضة السكب والصابونية واللوزية والخشخاشية والفستقية وخبيصة اليقطين والقاهرية والزقلبع والمصطنعية والقطايف المقلي (...) وينبغي أن تكون الحلوى تامة النضج غير نية ولا محترقة ولا تبرح المذبة يده يطرد عنها الذباب» (ص 158، طبعة دار الحداثة في بيروت أيضاً).

وإنما أردنا بهذه الأخبار التدليل على عروبة القطائف وقدمها، فلا يحسبن أحد أن صناع القطائف في لبنان يغشون... إنهم يصنعون خبز القطائف أمام أنظار الزبائن، ثم إن الحشوة مسئولية الزبون الذي يتولى الأمر في بيته، وقد تخير لنفسه أفضل القشطة، وأفضل اللوز والجوز. فهنيئاً للصائمين القطائف عند إفطارهم?

العدد 76 - الأربعاء 20 نوفمبر 2002م الموافق 15 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً