العدد 4637 - الإثنين 18 مايو 2015م الموافق 29 رجب 1436هـ

عَصْـر الإنسان

على ما يبدو أن هياكل الديناصورات جميعها أصبحت لا وجود لها في متحف التاريخ الطبيعي الوطني، الكائن في واشنطن العاصمة. أما قاعة الأحفوريات، ففي الغالب صارت الآن خاوية على عروشها، ويكسوها ظل قاتم. وبين كل ذلك، يتجول سكوت وينج، الباحث في علم الأحياء القديمة، في أنحاء الغرفة التي تشبه هيئة الكهوف.

يعمل وينج ضمن فريق، يضطلع بإعادة تصميم قاعة العرض ـ التي تشكل جزءًا من المعهد السميثصوني ـ بتكلفة قدرها خمسة وأربعين مليون دولار. وفي هذه المرة، عند افتتاح القاعة مجددًا في عام 2019، ستنقلك القاعة إلى أجواء تتخطى حدود زيارة ماضي الأرض البعيد، حيث ستضم القاعة ـ بجانب العرض التقليدي لنماذج Tyrannosaurus rex، وTriceratops ـ قسمًا جديدًا، يحث الزائرين على تأمل أنواع الكائنات الحية التي تهيمن على كوكب الأرض حاليًّا.

يذكر وينج حسبما أفاد تحقيق نشره موقع الطبعة العربية، أن الهدف من ذلك «رغبتنا في مساعدة الناس على تصوُّر أدوارهم ووظائفهم في هذا العالَم الذي نعيش فيه، حيث إن أدوارهم ووظائفهم قد تشكل أهمية أكبر مما يدركون».

سوف يسلِّط هذا المعرض ـ الداعي للتأمل والتفكير ـ الضوء على عصر الأنثروبوسين، أي تلك الفترة الزمنية من تاريخ كوكب الأرض، التي أصبح العنصر البشري خلالها قوة جيولوجية كبرى. فمن خلال أعمال التعدين وحدها، نقل العنصر البشري رواسب الأرض، متفوقًا في ذلك على قدرة مياه أنهار العالم كلها وقتذاك؛ كما تَسَبَّب أيضًا الإنسان العاقل Homo sapiens في زيادة درجة حرارة كوكب الأرض، وفي ارتفاع مستويات سطح البحر، وفي تآكل طبقة الأوزون، وفي تحميض المحيطات.

يقترح عديد من الباحثين ـ نظرًا إلى حجم هذه التغييرات وأهميتها ـ أن عصر الأنثروبوسين يجسد حقبة جديدة من الزمن الجيولوجي. حظي هذا المفهوم باهتمام وتأييد كبيرين، خاصة في السنوات القليلة الماضية، ليس فقط في أوساط علماء الجيولوجيا وحدهم، حيث جذب المصطلح اهتمام علماء الآثار، والمؤرخين، بل وحتى باحثي دراسات النوع الاجتماعي؛ وعرضت متاحف عديدة حول العالم فنًا مستوحَى من عصر الأنثروبوسين؛ كما أن الإعلام تبنَّى الفكرة بكل حماسة، إذ كتبت مجلة «الإيكونومست» في أحد أعدادها في عام 2011: «مرحبًا بعصر الأنثروبوسين».

هذه التحية سبقت أوانها قليلًا؛ فمع أن المصطلح راج استعماله، إلا أنه لا يزال فكرةً غير متبلورة، حيث إن هذه التسمية غير معترَف بها، ولم يقرّها المختصون بعد، كجزء من المقياس الزمني الجيولوجي. ومن المحتمل أن يتغير ذلك الحال عما قريب، فثمة لجنة من الباحثين تناقش حاليًّا إمكانية إدراج فكرة عصر الأنثروبوسين كوحدة جيولوجية معترف بها، فضلًا عن تحديد نقطة بداية هذا العصر على خريطة الزمن الجيولوجي، لكن النقاد يساورهم القلق، إذ إن النقاشات المهمة المعارِضة لذلك الاقتراح خفت صوتها في ظل التحمس العام للفكرة، خاصة تحمس جزء من الباحثين ذوي التوجه البيئي، الذين يرغبون في تسليط الضوء على مدى السلوك التخريبي والتدميري الذي أصبح الإنسان ينتهجه. وصار حال بعض المؤيدين لتلك الفكرة أشبه بحال المتعصبين، مما جعل أحد الباحثين الجيولوجيين ـ لم يرغب في الإفصاح عن اسمه ـ يقول: «ثمة تشابه بينهم وبين جماعات دينية محددة شديدة الغيرة على دينها. هذه الغيرة تصل إلى حد، يظنون عنده أن كل مَن لا يمارس شعائرهم الدينية إنسان بربري».

سلَّط النقاش دائرة الضوء على عملية جيولوجية، عادةً لم يفطن إليها أحد، ولكن استعان بها الجيولوجيون في تقسيم 4.5 مليار سنة من تاريخ كوكب الأرض. وفي المعتاد، تُؤخذ قرارات الزمن الجيولوجي على أساس دلائل علم طبقات الأرض ـ أي الدليل الذي تحمله ثنايا طبقات الصخور، ورواسب المحيطات، وعيِّنات اللب الجليدي، والرواسب الجيولوجية الأخرى. ومع ذلك.. لا تزال عملية وصف عصر الأنثروبوسين بأنه «زمن جيولوجي أساسي أكثر تعقيدًا من دلائل علم طبقات الأرض»، وفقًا ليان زلاجيفيت، الباحث الجيولوجي في جامعة ليستر بالمملكة المتحدة، ورئيس مجموعة عمل عصر الأنثروبوسين، الذي يقيّم القضية؛ لعرضها على الهيئة الدولية المعنية بعلم طبقات الأرض.

منقوش على الصخر

ينافس الجدول الزمني لتاريخ الأرض عند علماء الجيولوجيا الجدول الدوري من حيث الأهمية العلمية. وقد استغرق العمل عليه قرونًا من العمل المضني في طبقات الأرض؛ لتشييد بناء مُنظم؛ لدعم كافة دراسات ماضي كوكب الأرض، وذلك من خلال مطابقة الوحدات الصخرية الكبير، وترتيبها تبعًا للشكل. يقول مايكل ووكر، الباحث في علم جيولوجيا العصر الرابع في جامعة ويلز ترينتي سانت ديفيد في لامبتير بالمملكة المتحدة، إن «مقياس الزمن الجيولوجي ـ من وجهة نظري ـ أحد إنجازات البشرية العظيمة». ويعتمد عمل ووكر في المقام الأول على مقياس الزمن الجيولوجي، كما قاد فريقًا ساعد في تحديد أحدث وحدات مقياس الزمن الجيولوجي، المعروفة «بعصر الهولوسين»، الذي بدأ منذ 11,700 سنة.

كان قرار الاعتراف بعصر الهولوسين رسميًّا في عام 2008 أحد أهم الأعمال الحديثة التي أنجزتها الهيئة الدولية المعنيَّة بعِلْم طبقات الأرض المشرفة على المقياس الزمني. وقسمت اللجنة تاريخ الأرض إلى مجموعات من الكتل المتشابكة، على غرار ترابط السنين والشهور والأيام. ووفقًا للزمن الجيولوجي، أطلق العلماء تسمية «حقبة الحياة الحديثة» (Cenozoic era) على الستة وستين مليون سنة التي جاءت بعد اندثار عصر الديناصورات. وفي قلب تلك الفترة، تهيمن جيولوجيا العصر الرابع على 2.58 مليون سنة، وهي المدة التي تعاقبت على الأرض فيها عشرات دورات العصور الجليدية. ويتكون الجزء الأكبر من جيولوجيا العصر الرابع من الحقبة البلاستوسينية (Pleistocene)، بينما يحتل عصر الهولوسين (Holocene) رقعة زمنية صغيرة منذ نهاية العصر الجليدي الأخير.

عندما حدَّد ووكر ومجموعته بداية حقبة الهولوسين، كان لزامًا عليهم اختيار بقعة على الكوكب، تشير إلى معالم هذه الحقبة وحدودها، لأن أغلب الوحدات الجيولوجية يميزها تغير محدَّد تحمله الصخور، وهذا التغير ـ في كثير من الأحيان ـ يمثل الظهور الأول الشائع لأحفور ما. ومن الناحية البيولوجية، لم يبلغ عصر الهولوسين من القِدَم أقصاه، كي يقدم لنا مستوى غير معتاد من الدقة. لذا.. حرص ووكر ومجموعته على اختيار تغيير مناخي، كان نهاية فترة الطقس البارد من العصر الجليدي الأخير، ثم ميَّزوا البصمة الكيميائية للاحتباس الحراري على عمق طوله 1,492.45متر في لب جليدي، تم حفره بالقرب من وسط أراضي جرينلاند1. وثمة بصمة مشابهة للاحتباس الحراري، يمكن رؤيتها في الرواسب المتجمعة في البحيرات والبحار الموجودة في كافة أرجاء العالم، وذلك الأمر سيعطي الجيولوجيين فرصة؛ كي يحددوا بدقة بداية عصر الهولوسين في مكان آخر.

 

وبينما كانت الهيئة الدولية المعنية بعلم طبقات الأرض تخطو آخر خطواتها، كي تقر تحديدًا بداية عصر الهولوسين، كان النقاش يتصاعد حول احتمال نهاية ذلك العصر، وإعلان بداية عصر الأنثروبوسين. ولهذه الفكرة تاريخ طويل؛ ففي منتصف القرن التاسع عشر، سعى جيولوجيون عديدون إلى الاعتراف بالقوة البشرية العظمي، من خلال الإشارة إلى الزمن الحاضر باعتباره عصر الأنثروبوزويك؛ ومن وقتها أخذ آخرون يطرحون اقتراحات مماثلة، تحمل أحيانًا أسماء مختلفة؛ لكن هذه الفكرة اكتسبت زخما في السنوات القليلة الماضية فقط. ويعود ذلك جزئيًّا إلى التغيرات البيئية السريعة، وإلى إسهامات بول كروتزن، الكيميائي في معهد ماكس بلانك للكيمياء في ماينز الألمانية.

يمتلك كروتزن خبرة شخصية خاصة وفريدة عن الطريقة التي تَسَبَّب بها الفعل البشري في تغيُّر الحياة على كوكب الأرض. ففي سبعينات القرن العشرين وثمانيناته، قام باكتشافات كبرى عن طبقة الأوزون، وعن طريقة إتلافها، بسبب التلوث الناجم عن العنصر البشري، وقد استحق أن ينال على هذا العمل جائزة «نوبل» بالمشاركة مع آخرين. وفي عام 2000، طرح كروتزن ويوجين ستورمر ـ من جامعة متشيجان في آن أربور ـ مناقشة، مفادها أن سكان العالم أصبح لهم تأثير كبير على العمليات الكوكبية، مما يفرض علينا تسمية العصر الجيولوجي الحالي «أنثروبوسين»2. ولأنه من علماء الكيمياء الجوية، لم يكن كروتزن من المجتمع الذي عليه البت في القرارات المتعلقة بالتغيرات في المقياس الزمني الجيولوجي، لكن الفكرة ألهمت عديدًا من الجيولوجيين، وبالأخص زالاجيفت وأعضاء آخرين من الجمعية الجيولوجية في لندن، حيث كتبوا ـ في عام 2008 ـ ورقة موقف أكاديمي، يحثُّون فيها المجتمع على وضع هذه الفكرة موضع الاعتبار3.

كان لهؤلاء القدرة على تسريع وتيرة وقوع الأمر وحدوثه. فقد صادف أن أصبح زالاجيفت عضوا في لجنة العصر الجيولوجي الرابع الفرعية، التابعة للهيئة الدولية المعنيّة بعلم طبقات الأرض، وهي الهيئة التي ستتحمل مسؤولية دراسة المقترحات رسميًّا. وترأَّس وقتذاك هذه اللجنة أحد المؤلفين المشاركين، وهو فيل جيبارد، من جامعة كمبريدج في المملكة المتحدة.

في ظل دائرة الشك التي تقع فيها الفكرة، يقول جيبارد: «يمكنني أن أرى أهمية ذلك، حيث إنه شيء لا ينبغي أن ندير له ظهورنا». وفي العام التالي، كلّف جيبارد الكيميائي زالاجيفت بتشكيل مجموعة علم الأنثروبوسين؛ للنظر في هذا الأمر.

بداية جديدة

منذ ذلك الحين، أصبح جدول هذه المجموعة يعج بالأعمال، فنشروا تقريرين كبيرين، من الممكن أن يتسببا لك في جرح، إذا سقطا على أيٍّ من أصابع قدمك، فضلًا عن عشرات الأوراق البحثية الأخرى.

وأمام هذه المجموعة قضايا عديدة للنِّقاش: هل يُعقل أن يشكِّل الأنثروبوسين وحدة من مقياس الزمن الجيولوجي؟ ومتى بدأت؟ وما المكانة التي ينبغي أن يتبوأها في التسلسل الهرمي لمقياس الزمن الجيولوجي، في حالة أن أقرّته الجهة المعنية؟

عندما اقترح كروتزن مصطلح «أنثروبوسين»، أضاف المقطع اللفظي النهائي الصحيح المستخدَم في وصف عصر جيولوجي، وناقش أن تاريخ بداية هذا العصر كان في أواخر القرن الثامن عشر، أي مع بداية الثورة الصناعية. وفي تلك الفترة الواقعة بين تلك البداية وبداية الألفية الجديدة، لاحظ أن البشر ثقبوا طبقة الأوزون الواقعة فوق القارة القطبية الجنوبية، وضاعفوا كمية الميثان في الغلاف الجوي، وزادوا تركيزات ثاني أكسيد الكربون بنحو %30؛ لتبلغ مستوى غير معهود خلال أربعمائة ألف سنة.

عندما بدأت مجموعة عمل الأنثروبوسين في مرحلة التحقق والتنقيب، أعدَّت قائمة أطول بكثير من التغييرات التي جلبها البشر على كوكبنا؛ فأشارت إلى أن الزراعة، والمعمار، وتشييد السدود على الأنهار.. كل ذلك تَسَبَّب في نقل الرواسب، بمعدل لا تقلّ سرعته عن عشرة أضعاف سرعة عوامل التعرية الطبيعية. وعلى طول بعض السواحل، أدّت كمية مغذيات الأسمدة الكبيرة إلى تكوين «مناطق ميتة» تفتقر للأكسجين؛ كما أدّت زيادة ثاني أكسيد الكربون الناجم عن احتراق الوقود الحفري إلى حموضة سطح مياه المحيطات بمقدار 0.1 أس هيدروجيني لكل وحدة. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل امتد وصارت بصمة العنصر البشري جليّة في تقلبات درجة الحرارة عالميًّا، وفي معدل انقراض الأنواع، وفي انصهار جليد القطب الشمالي.

في البداية، انجذبت مجموعة العمل ـ التي تضم كروتزن ـ إلى فكرته القاضية باختيار الثورة الصناعية كنقطة بداية الأنثروبوسين زمنيًّا، إلا أن طاولة النِّقاش كشفت عن خيارات أخرى مطروحة.

 

يدعي بعض الباحثين أن هذا العصر تصادفت بدايته مع التوسع في الزراعة، وتربية الماشية، منذ ما يزيد على 5 آلاف سنة4، أو مع ثورة التعدين، منذ ما يزيد على 3 آلاف سنة (انظر: «البشر في مركز القيادة»). ولم تترك كل من الثورة الصناعية أو تغييرات الأرض الأقدم أي إشارات جيولوجية غامضة عن نشاط إنساني متزامن في جميع أنحاء العالم.

وقد شهد الأسبوع الثاني من مارس الماضي في دورية Nature طرحًا قدَّمه باحثان، يبين أن علامة بداية عصر الأنثروبوسين المحتملة قد تكمن في الانخفاض الملحوظ في تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون في الفترة ما بين عامي 1570 حتى 1620، والمسجلة في عينات لب الجليد. وربط الباحثان هذا التغير بهلاك ما يقرب من 50 مليون نسمة من سكان أمريكا الشمالية والجنوبية الأصليين، الذي حلَّ بعد وصول الأوروبيين إليهما. وفي أعقاب تلك الكارثة، حلَّت الغابات محل 65 مليون هكتار من الحقول الزراعية المهجورة؛ فشهدت الأرض طفرة في عودة النمو، الذي خَفَّضَ من مستويات ثاني أكسيد الكربون العالمية.

ومع ذلك.. تحدث زالاجيفيت والمجموعة كثيرًا عن خيار آخر، مستغلِّين العلامات الجيولوجية التي خلَّفها عصر الذرة. ففي الفترة من 1945 حتى 1963، عندما دخلت معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية حيز التنفيذ، نفّذت الدول ما يقرب من خمسمائة تفجير نووي فوق سطح الأرض. وخلَّفت تلك الانفجارات غبار الأنقاض، ليحوم حول العالم، وليكوِّن طبقة مميزة من عناصر إشعاعية في الرواسب. آنذاك، كان البشر يتركون بصمات جيولوجية بعدد من الطرق الأخرى، وجميعها شَكَّلَ جزءًا مما صار، يُعرف باسم (السرعة العظمى للعالم الحديث)، حيث بدأت صناعات البلاستك تغمر البيئة، جنبًا إلى جنب مع الألومنيوم، والمخصبات الصناعية، وصناعات الإسمنت، والبترول المحتوِي على الرصاص، حيث إن جميع ما سبق ترك إشارات في سجل عمليات الترسيب.

في شهر يناير الماضي، عرضت أغلبية في مجموعة العمل ـ قوامها 37 شخصًا ـ أول نتائجها المبدئية، وقدَّم زالاجيفيت و25 عضوًا آخرين تقريرًا5 بأن العلامات الجيولوجية الموجودة منذ منتصف القرن العشرين تجعل هذا الوقت «مثاليًّا من ناحية طبقات الأرض»؛ للوقوف على بداية الأنثروبوسين، سواء تَحَدَّدَ ذلك رسميًّا، أم لا، وهو ما أطلق عليه زلاجيفيت «مرشح لأسوأ حد فاصل على الأقل».

اقترحت المجموعة تاريخًا محددًا للبداية، وهو السادس عشر من يوليو لعام 1945، وهو ذلك اليوم الذي شهد أول تفجير نووي. سوف يكون الجيولوجيون قادرين في المستقبل ـ بعد آلاف السنين ـ على تحديد الحد الفاصل بالنظر في الرواسب؛ لالتقاط بصمة البلوتونيوم طويلة العمر، التي خلّفتها تفجيرات من منتصف القرن، أو من علامات عالمية أخرى منذ ذلك الوقت.

نِقَاش متعدِّد الطبقات

يزعِج الضغط الممارَس من البعض للاعتراف رسميًّا بعصر الأنثروبوسين علماءَ طبقات الأرض. وفي عام 2012، نشرت دورية الجمعية الجيولوجية الأمريكية6 تعليقًا، تسأل فيه: «هل الأنثروبوسين قضية يبتّ فيها عِلْم طبقات الأرض، أم الثقافة الشعبية؟» ويشكو البعض من أن مجموعة العمل ولَّدت تيارًا دعائيًّا لتأييد هذا المفهوم. ومن ثم، يقول ستان فيني ـ الباحث في علم الجيولوجيا القديمة لطبقات الأرض في جامعة ولاية كاليفورنيا بمدينة لونج بيتش، ورئيس الهيئة الدولية المعنية بطبقات الأرض، التي ستَعقِد في النهاية تصويتًا على اقتراح تقدِّمه مجموعة العمل ـ «إنني محبَط، لأنهم كلما قاموا بعمل أي شيء، فثمة مقالات بالصحف. وأمّا ما تراه يحدث هنا، فقد صار بيانًا سياسيًّا. وهذا ما يريده أغلب الناس».

أودع فيني بعضًا من مخاوفه في ورقة بحثية7، نُشرت في عام 2013. وأحد أكبر الأسئلة التي تناولها يتلخص فيما إذا كانت هناك حقًّا سجلات مهمة وذات دلالة على عصر الأنثروبوسين في طبقات الأرض عالميًّا، أم لا. ولاحظ في قاع البحر أن طبقة الرواسب ـ التي تحمل في طياتها تاريخًا عمره سبعون عامًا ـ قد يقل حجمها عن ملِّيمتر واحد. وذكر أن القضية الأكبر من ذلك، هي صحة وملاءمة تصنيف شيء، ينتمي إلى الحاضر والمستقبل في المقام الأول، كجزء من مقياس الزمن الجيولوجي.

يناقش بعض الباحثين أنه من السابق جدًّا لأوانه اتخاذ أي قرار، لأن الأمر سوف يستغرق قرونًا، أو أكثر؛ لنعرف ما هو الأثر الدائم الذي سيتركه الإنسان على سطح الكوكب. وظَهَرَ على الساحة أحد أعضاء مجموعة العمل، ويُدعى إيرل إليس ـ الباحث في علم الجغرافيا في جامعة ميريلاند بمدينة بالتيمور كاونتي ـ وقال إنه أثار فكرة التَّرَوِّي والتحقق على زملائه في المجموعة: «ينبغي أن نضع إطارًا زمنيًّا، ولعله بعد ألف عام من اللحظة الآنية، حيث نتمكن خلاله مِن أنْ نتحقق رسميًّا من صحة الأمر. أما إصدار قرار قبل ذلك، فسيكون من السابق لأوانه». وحتى ذلك الأمر لا يبدو هو الآخر محتملًا، لأن مجموعة العمل تخطط لأَنْ تقدِّم مقترحاتها الأولية في عام 2016.

انسحب من النِّقاش بعض الأعضاء الذين لديهم وجهات نظر مغايرة للأغلبية. وبقي ووكر وآخرون يوضِّحون أن أنشطة العنصر البشري أصبحت بالفعل من الأشياء المسَلَّم بها في مقياس الزمن الجيولوجي. ولا يزال وجود المجتمعات البشرية في العصر الحديث هو الفارق الوحيد بين فترة الاحتباس الحراري الحالية، وعصر الهولوسين، وكل الفترات التي ظهرت بين العصور الجليدية البليستوسينية. لذا.. يقول ووكر: لقد «لعبتَ ببطاقة الحظ في التعريف بعصر الهولوسين. ومن الصعب أن تستخدمها مجددًا».

ومنذ عام، بعد أنْ صار من الواضح أن جعبة ووكر تحمل القليل، استقال من المجموعة، وهو لا يُكِنّ سوى الاحترام لكل أعضائها، على حد قوله. وقد سمع مخاوف من أنّ وتيرة حركة تحديد بداية الأنثروبوسين تزداد سرعة. لذا.. يقول إنّ «هناك إحساسًا في بعض الأوساط، يفضي بأن القوة المحرِّكة لهذا الأمر أشبه بقوة الطاغوت. أما في المجتمع الجيولوجي، ولا سيما في مجتمع طبقات الأرض، فيسود شعور بالقلق وعدم الراحة».

يبذل زالاجيفيت جهودًا مضنية؛ لإيضاح أن مجموعة العمل لم تصل بعد إلى أي استنتاجات قاطعة، ويقول: «نحتاج إلى مناقشة فائدة الأنثروبوسين. وإذا كنا سنضفي الطابع الرسمي عليه، فمن سيسدي عونًا في ذلك، ومَن قد يكون منزعجًا؟ فهناك كثير من العمل ينتظرنا».

إنّ أي مقترح قدمته المجموعة سيظل في حاجة إلى اجتياز سلسلة من العقبات. أولًا، سيحتاج إلى تأييد الأغلبية المطلقة، أي %60 موافقة، في تصويت يشارك فيه أعضاء لجنة العصر الجيولوجي الرابع الفرعية. ومن ثم، سيحتاج إلى بلوغ النسبة المئوية ذاتها في تصويت ثان، تشارك فيه قيادات الهيئة الدولية المعنية بطبقات الأرض، التي تشمل رؤساء من المجموعة التي تدرس الكتل الزمنية الكبرى. وأخيرًا، يجب أن توافق اللجنة التنفيذية للاتحاد الدولي للعلوم الجيولوجية على الطلب.

في كل خطوة، كثيرًا ما تُرسَل الاقتراحات للتنقيح والمراجعة، وفي بعض الأحيان تُرفَض كليّةً. يقول مارتن هيد، الباحث في علم الطبقات البحرية في جامعة بروك بمدينة سانت كاترين الكندية، والرئيس الحالي للجنة العصر الجيولوجي الرابع الفرعية: «إنها عملية محافظة في الأساس»، ويتابع بقوله: «إنك تعبث بالمقياس الزمني الذي يستخدمه ملايين الناس في كل أنحاء العالم. فإذا كنتَ تُجْرِي تعديلات، فيجب أن تكون هذه التعديلات على أساسٍ يَلْقَى تأييدًا ساحقًا».

 

أخبر بعض أعضاء لجنة العصر الجيولوجي الرابع الفرعية، الذين شاركوا في التصويت بدورية Nature، أنهم لم يقتنعوا بالمناقشات التي أثارها المؤيدون لفكرة الاعتراف بالأنثروبوسين. يقول جيبارد ـ وهو صديق لزالاجيفيت ـ إن تحديد بداية هذا العصر لن يساعد معظم جيولوجيّ العصر الرابع، خاصة أولئك الدارسين لعصر الهولوسين، لأنهم لا يميلون إلى دراسة مادة من العقود أو القرون القليلة الماضية. ويقول أيضًا: «لا أريد أن أصير شخصًا يهدم النقاشات، لأن الكثير من الأمور المفيدة سيتجلَّى؛ كنتيجة لأسلوب التفكير في هذا الأمر بطريقة منهجية».

وفي حالة عدم الموافقة على المقترح؛ فسيتمكَّن الباحثون من استخدام لفظة «الأنثروبوسين»، ولكن بصورة غير رسمية، مثلهم في ذلك مثل استخدام مصطلحات علم الآثار ـ كالعصر الحجري الحديث، والعصر البرونزي ـ في وقتنا هذا. وبغضّ النظر عن النتيجة، شَقَّ عصر الأنثروبوسين طريقه في الحياة، حيث بدأ في إصدار ثلاث دوريات عن الأنثروبوسين في العامين الماضيين، كما ارتفع معدل عدد الأوراق البحثية المتناولة للموضوع ارتفاعًا حادًّا، حيث تخطَّى عدد الأوراق البحثية المنشورة في عام 2014 مئتي ورقة.

وبحلول عام 2019، عند افتتاح قاعة الأحافير الجديدة في متحف التاريخ الطبيعي، التابع التي للمعهد السميثصوني، سوف يتضح ـ على الأرجح ـ ما إذا كان عرض الأنثروبوسين يصوِّر وحدة زمنية معترفًا بها، أم لا. يقول وينج ـ عضو مجموعة العمل ـ إنه لا يريد أن يخوض مناقشة تستند إلى علم طبقات الأرض، حتى لا يقلل من أهمية القضية الكبرى. ويؤمن أنَّ «هناك ـ بلا شك ـ أفقًا أرحب لتناول التأثيرات البشرية على النظم البيئية. وهذا الأفق ستكون أهميته أكبر، كما سيثير اهتمامًا أكبر من الناحية العلمية».

وبينما يجول في قاعة الحفريات القديمة المغلقة، يشير إلى كَمّ العمل الذي ينبغي القيام به، لإعادة تشكيل المعروضات، وتحديث المتحف، الذي افتُتح منذ قرن مضى. وفي العقل الجيولوجي، تمثل المئة عام فترة عادية، إلا أنه في خلال هذه الفترة تَضَاعف عدد السكان أكثر من ثلاث مرات. ويطلب وينج من زوار المتحف أن يفكروا ـ حتى ولو لبرهة ـ في القوة الكوكبية التي يملكها العنصر البشري الآن بين يديه، وفي الكيفية التي يتفق فيها ذلك مع سياق تاريخ كوكب الأرض. ويختتم كلامه قائلًا: «إذا نظرت إلى الوراء بعد 10 ملايين سنة من المستقبل، ستكون قادرًا على إدراك ما الذي نفعله اليوم».

 





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً