العدد 4648 - الجمعة 29 مايو 2015م الموافق 11 شعبان 1436هـ

القلعة وجاراتها: امتدادات العاصمة القديمة

ساحل السنابس قديما قبل الدفان (www.esanabis.com)
ساحل السنابس قديما قبل الدفان (www.esanabis.com)

ناقشنا في الحلقة السابقة الآثار الإسلامية التي توجد ما بين ساحل قلعة البحرين والحدود الجنوبية لقرية حلة العبد الصالح. هذه الآثار، في مجملها، تعود للفترة ما بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر الميلاديين. ويوجد هناك خلاف حول بداية هذه الفترة؛ حيث يرى البعض أن بداية الاستيطان في هذه المناطق بدأ في القرن الثاني عشر الميلادي وربما قبل ذلك، بينما يرى آخرون أن الاستيطان قد بدأ في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي. وعلى الرغم من هذا الاختلاف، إلا أن هناك اتفاق بين هؤلاء الباحثين والمنقبين، وهو ترجيح أن هذه المنطقة كانت تضم عاصمة البحرين التجارية في تلك الفترة. ويبدو أن تلك المنطقة كانت تمثل، في الحد الأدنى، مدينة واحدة ضخمة تمثل العاصمة، وبذلك تكون أيضاً موقع الحاكم السياسي للمنطقة في تلك الفترة.

كذلك، فإنه من المرجح، أن هذه المدينة/ العاصمة كانت في تلك الفترة، أي ما بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر الميلاديين، محاطة بعدد من الضواحي التي كانت تمثل امتداداً لهذه المدينة وتقدم خدمات إضافية للمنطقة، كالساحل الممتد شمال رأس القلعة، وبالتحديد ساحل مني ومروزان. كذلك، فقد حدث توسع لهذه المدينة باتجاه مواطن الاستيطان الأكثر قدماً منها، باتجاه الجنوب والغرب. بهذه الصورة، فإن المدينة / العاصمة كانت تمثل مركزاً تجارياً مهماً، ولهذا المركز ميناء ضخم يمتد شمالاً. ويضاف لذلك مباني للسكان ومقبرة ضخمة، وقصر أو قلعة للحاكم السياسي، وعدد من المساجد التي لا يمكننا تحديد عددها؛ وذلك لكثرة المساجد القديمة المحيطة بهذا الموقع والتي لم يتم التنقيب بها وتحديد فترة بنائها.

هذا، وقد سبق أن ناقشنا في عددٍ من المواضيع السابقة منطقة القلعة وحلة العبد الصالح والمناطق المجاورة لهما، كمني ومروزان وكرانة والمقشع وأبومحارة وغيرها. غير أننا ناقشنا تلك المناطق من ناحية تاريخية محددة وبصورة منفصلة عن بعضها البعض، دون الإشارة لترابطها. وسوف نحاول في هذه الحلقة إعطاء صورة عامة لامتداد المدينة/ العاصمة القديمة التي أقيمت في منطقتي القلعة وحلة العبد الصالح وكيف ترتبط أو تتفاعل مع المناطق المحيطة بها.

مني ومروزان

مني ومروزان، كلاهما كانتا قرى ساحلية، وجزءاً من ساحلهما هو الساحل الذي عرف باسم ساحل السنابس، والذي دفن وأقيم عليه ضاحية السيف. وقد كان ساحل مني ومروزان في السابق مليء بمصائد الأسماك وبمحاذاته عدد كبير من قطع الأراضي الزراعية التي كانت تساهم بجزء كبير من اقتصاد الدولة منذ القرن الثاني عشر الميلادي؛ حيث كان خراج هذه الأراضي الزراعية ومصائد الأسماك يعتبر جزءاً مهماً من اقتصاد الدولة في تلك الحقبة. فعندما ضعفت الدولة العيونية في جزيرة أوال، اضطرت لإبرام معاهدات الصلح وتقديم التنازلات؛ فقد أبرم الأمير العيوني فضل بن محمد بن أحمد معاهدة صلح مع ملك جزيرة قيس، غياث الدين شاه بن تاج الدين جمشيد، ومن ضمن التنازلات أن يأخذ ملك جزيرة قيس جميع عشر السمك بساحل مني ومروزان (الجنبي وآخرون 2012، ج5، ص 2996 - 3000). أما الأراضي الزراعية في مروزان فقد ذكرها الشاعر ابن مقرب العيوني في نونيته التي كان يتأسف فيها على ضياع أملاك العيونيين في جزيرة أوال، ويقول فيها (الجنبي وآخرون 2012، ج5، ص 2858):

وَأَمَضُّ شَيءٍ لِلقُلوبِ قَطائِع

بِالمَروَزانِ لَهُم وَكَرزكّانِ

كذلك فإنه من المرجح أن هذه الضاحية، أي مني ومروزان، كانت تمثل الميناء التجاري بالنسبة للمدينة/ العاصمة. هذا، وقد جاءت نتائج المسوحات الآثارية في هذه المناطق مطابقة للمعطيات التاريخية؛ حيث تشير نتائج تلك المسوحات إلى وجود لقى أثرية في شمال مروزان تدل على وجود استيطان بها وذلك في الفترة ما بين القرنين الثاني عشر والسابع عشر (Larsen 1983, figure 7 and appendix 2).

أبوزيلة والفلاة (الديه)

من المناطق الساحلية التي كانت على امتداد ساحل مروزان أو السانابس (قبل الدفان)، منطقتي أبوزيلة والفلاة، وتقعان غرب السنابس. وقد كانتا من المضاعن (أي مكان السكن المؤقت) القديمة، وتحولتا لاحقاً إلى قرية الديه. ويبدو أن هذه المنطقة كانت في السابق تعتبر امتداداً لساحل مروزان ولها نفس أهميته. وتشير نتائج المسوحات الآثارية في هذه المناطق لوجود منطقتي استيطان بها، الأولى تعود للقرن الرابع عشر الميلادي، أما الثانية فتعود للفترة ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر الميلاديين. بالإضافة لوجود منطقة استيطان شرق قرية الديه الحالية، والتي يبدأ الاستيطان فيها منذ القرن الخامس عشر الميلادي وحتى يومنا هذا (Larsen 1983, figure 7 and appendix 2). هذه النتائج تشير بوضوح لوجود مستوطنة تاريخية في منطقة الديه الحالية تأسست قرابة القرن الرابع عشر الميلادي، أو قبل ذلك.

ما بين الحلة والقدم

لم تكن المدينة/ العاصمة معزولة عن باقي المناطق، فبالإضافة لضاحية مني ومروزان، فإن هذه المدينة تتصل جنوباً بمنطقتي المقشع وأبو محارة. ولا يعلم بالتحديد تاريخ تأسيس هذه القرى الأخيرة، ومن المرجح أنها قرية المقشع تأسست ما بين القرنين الثاني عشر والسادس عشر الميلاديين (Larsen 1983, figure 7 and appendix 2). بينما يرجح أن قرية أبو محارة بنيت، في الحد الأدنى، في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، هذا ما يستفاد من نقش بناء مسجد أثري عثر على آثاره في موقع أبو محارة، والذي يعود تاريخه للعام 809 هجرية (1406م) ويظهر فيه اسم وزير الدولة الهرمزية في البحرين إقبال الدين السلطان محمد (Kalus 1990, pp. 70 - 71).

وجنوب قرية أبو محارة تقع قرية القدم، وهي من القرى التي كان لها ثقل في السابق، فقد خرج من هذه القرية أعلام كان لهم شأن في الدولة؛ فمنهم من تولى منصب القضاء والأمور الحسبية في البحرين، كالشيخ علي بن سليمان القدمي البحراني (توفي العام 1064هجرية/ 1654م)، وتولى المنصب بعده ابنه الشيخ صلاح الدين بن علي بن سليمان القدمي والذي توفي بعد والده بفترة بسيطة. بالإضافة لذلك كان بها مساجد ذات صيت، منها مسجد أبواللقا، الذي ربما كانت تضاهي شهرته مسجد الخميس؛ فقد ذكره الشاعر أبوالبحر جعفر الخطي (توفي العام 1618م) في قصيدة له مقترناً بمسجد الخميس «أبوالمنائر»:

هذَا وأُقسِمُ بـ (المُثَوَّبِ) غُدْوَةً

بـ (أبِي المنَائِرِ) دَاعِياً و(أبِي اللِّقَا)

وفي الحاشية علق المحققان على أبو اللقا:

«وذكر في حاشية خ «أبواللقا» مسجد معروف ـ وهذا المسجد يقع في قرية «القدم» ومازال موجوداً وكانت تقع بالقرب منه عين ماء متدفقة وقد اندثرت الآن (المنصور والعريض 2002، حاشية ص 467).

الخلاصة

الخلاصة، أنه قرابة القرن الثاني عشر الميلادي تأسست مدينة ذات طابع تجاري في المنطقة المحصورة بين ساحل القلعة والحدود الجنوبية لقرية حلة العبد الصالح. لا يعرف بالتحديد مدى حجم هذه المدينة وامتدادها، ولكن نعلم أن شرق هذه المدينة توجد ضاحية ساحلية تابعة لها، وكانت تمثل ميناءها ومنطقة إنتاج لا غنى عنها. كذلك، فإن حدود هذه المدينة الجنوبية مرتبطة بمناطق قديمة كانت في الماضي ذات صيت؛ حيث بني فيها مساجد ذات أهمية، وخرج منها أعلام تبوأوا مناصب قيادية في الدولة. ولكن حتى مع وجود هذه العاصمة وامتداداتها، لم تفقد البلدة القديمة رمزيتها وهو ما سوف نسلط عليه الضوء في الحلقة القادمة.

العدد 4648 - الجمعة 29 مايو 2015م الموافق 11 شعبان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً