العدد 8 - الجمعة 13 سبتمبر 2002م الموافق 06 رجب 1423هـ

نقولا زيادة: ولدت في دمشق وتعلمت في جنين ودرّست في عكا

شيخ المؤرخين العرب يتذكر أيام الطفولة والشباب (1)

95 سنة مضت على طفولة شيخ المؤرخين العرب نقولا زيادة، وحتى الآن لايزال يتذكر تفاصيل تلك الأيام مرّها وحلوها في الشام وفلسطين.

الزميل وليد نويهض التقاه في بيروت وروى له ماضي تلك الأيام، وهنا بعضها...

عائلتي من الناصرية، كان والدي يعمل في قسم الهندسة في سكة حديد الحجاز في فترة انشائها، ولأن مركزها كان في دمشق، نقل من فلسطين الى هناك.

والدي تزوج في 6 فبراير/شباط 1907، وأخذ عروسه الى الشام، فولدت في دمشق في 2 ديسمبر/كانون الاول 1907، أي في السنة نفسها.

طفولتي الأولى كانت في دمشق. وأذكرها الى الآن. اذكر اشياء كثيرة خصوصا اننا عائلة صغيرة تتألف من أب وأم وأخت، لكن هذه الطفولة الهانئة الوادعة لم تستمر. بدأت الحرب العالمية الأولى وجند والدي كما جنّد كثير من «العثمانيين» آنذاك. وكان التفكير ان هؤلاء الذين جندوا سينقلون الى الترعة (قناة السويس) لمحاربة الانجليز هناك. وحين بدأ أخذ هؤلاء الشباب الى التدريب العسكري حشروا في اماكن مختلفة في دمشق، في الجوامع والمساجد والخانقات، وسموهم «السوقيات» أي سيساقون الى الجبهة. وأقام والدي مع آخرين في جامع المعلقة، ولم يكن مسموحا لأمي ان تزوره.

كنت اذهب مرة في الاسبوع، وكنت آنذاك في مطلع الثامنة من عمري، وكان الوقت شتاء في دمشق. ذهبت يوما وسألت عنه، فقيل انه مرض ونقل الى مستشفى، لم يكن احد يعرفه. وترتب عليَّ انا ووالدتي، ان نبحث عن والدي في المستشفيات. يوم هي، ويوم أنا. وكان أخي في الثالثة ولا يمكنه ان يساعدنا. رأيت اشياء كثيرة خلال زياراتي في عشرة ايام. كنت ادخل كل الغرف، وكانوا يكشفون لي عن وجه كل مريض. لم اعثر عليه. ولا امي ايضا. واصابتها عدوى وأنا الحمد لله نجوت. وفي يوم من الايام عادت امي مساء من دائرة التفتيش، تحمل كيسا، وقالت لي: نقولا... أبوك مات، وهذه ثيابه.

لا أذكر تماما كيف كان وقع الأمر عليّ، لكن أعرف انني لم أبكِ ولم اتكلم، إلا بعد مدة، وسألتها: هل عرفت أين دفن؟ اجابتني: سألت الشخص الذي قال لي: انه دخل هذا المستشفى بتاريخ كذا، وخرج ميتا بتاريخ كذا.

وسألني: زوجك كان كريستيان، أي مسيحي بالتركية؟ أجبت: نعم..

قال لها: نقل الى مارجريس. كل المسيحيين نقلوا الى مارجريس، أما المسلمون فنقلوا الى مقابر المسلمين آنذاك أي مطلع القرن العشرين. كان الفقراء أمثالنا، معهم ليرة عثمانية، يخبئونها في الفرشة. شقت أمي الفرشة وأخرجت ليرة عثمانية ذهبية واحدة، وقالت: هذا كل ما معي.

نحن أسرة غريبة في الشام، وارسال الخبر الى الناصرة ليأتي احد الاقارب يستغرق وقتا طويلا. صرفنا الليرة، التي كانت لها قيمة، وكادت تنتهي. وذهبت أنا بناء على طلب أمي، الى زيارة البطريرك غريغوريوس الثاني. والسبب في هذا، ان خالي كان مطرانا في بطريركيته لصيدا وصور ومرجعيون. كان غائبا آنذاك عن البلاد، كان في اميركا. ذهبت الى البطريركية وكنت اعرفها، لأننا كنا نزور البطريرك مع اهلي. عند المدخل سألني رجل: ماذا تريد يا ولد؟... قلت: اريد لقاء غبطة سيدنا.

قال: سيدنا مشغول (مش فاضي لك). سمع البطريرك، فقال له: فليدخل. وحين دخلت وعرفني أخذني بالاحضان. شرحت القضية في اختصار. فتح درجا وتناول بعض نقود الورق التركية، لا أذكر كم كانت، ووضعها في مظروف وضعه في جيبي، وقال: يا بني هذا ما يوجد لدي، حين ينتهي، عد إليّ. والحمد لله لم نحتج الى زيارة ثانية فالخبر وصل الى الناصرة في اسرع مما تصورنا، وجاء خالي ودبر الأمور. وذهبت مع خالي الى البطريرك وشكره.

الناصرة

رجعنا الى الناصرة. جدي لأبي، كان قتل وأبي صغير. جدتي لأبي تزوجت وتركت الناصرة. البيت الوحيد الشاغر كان بيت جدي لأمي، وكان جدي لأمي في السبعين من عمره، قصير القامة، عنده بستان يتعيش منه، يمكن ان يطعمنا بعض الخبز (خبز ذرة). كان خبز القمح غاليا. لكن نحن خمسة (أمي وأربعة أولاد) فتعهد خالي بأن يعنى بي، وتعهدت خالتي بأن تعنى بأخي، وجدي وستي تعهدا بأن يعنيا بالبنت. وقيل لأمي اعتني انت بالاخرى. لكن الحظ السيئ، قضى في أقل من سنة، بأن يقتل خالي في قنبلة ألقتها طائرات بريطانية، وماتت خالتي بالكوليرا، فعاد الهم الى أمي فاضطرت للعمل من العام 1917 الى العام 1924 حتى عيشتنا. تعلمت في الفترة التي كنت فيها في دمشق في سن الرابعة، في مدرسة الفرير، ومدرسة البروتستانت، كان ذلك يتوقف على البيت الذي نسكنه. في الناصرة، حين رجعنا ذهبت الى المدرسة، وكنت اجيد القراءة، لكن العمل الذي وجدته أمي كان في جنين. فذهبنا الى جنين، وفي جنين توجد مدرسة لها مبنى جيد خارج البلدة، لكن الحكومة اقفلت المدرسة واعطت المبنى الى ضباط «وحدة الطيران الألماني». قضيت مدة سنتين على الاقل من دون مدرسة، المدرسة الحكومية مقفلة ولا مدارس أخرى. لم أكن وحيدا.

كانت لديّ رغبة في القراءة، كانت في بيت جدي في الناصرة مكتبة لخالتي، وهي انتقلت الى اميركا وتزوجت. وكان جدي يسمح لي ان أقرأ الكتب في الناصرة ولم يسمح لي أبدا بأن احمل كتابا الى جنين. كان ذلك نحو العام 1918. وكان على مقربة منا رجل كبير السن، من الوجهاء المتوسطي الحال، استدعاني يوما الى بيته. وقال لي: بلغني أنك تحب القراءة، وليس لديك كتب، وأنا لدي مكتبة، ومستعد ان اعيرك كتابا واحدا، واذا أعدته في الوقت المناسب وحافظت عليه سأعطيك كتبا اخرى. وكان المجلد الأول من «ألف ليلة وليلة»، وهو واحد من أربعة مجلدات. قرأته فأعطاني الآخر. ثم أعطاني «تغريبة بني هلال» قصة عنترة. ثم اعطاني قصة الملك «سيف بن ذي يكن». قراءات الطفولة وسعت مخيلتي وحبي للقصص والتاريخ. في العام 1921، فتحت المدرسة حين جاء الانجليز واحتلوا البلاد. دخلنا المدرسة، وكنا معلمين وطلابا، «ملمومين لما». كان في صفي 12 تلميذا، كنت الأصغر سنا (11 سنة).

من الامور اللطيفة التي حصلت معي أنه في اليوم الاول حين دخل معلم الدين الاسلامي واللغة العربية الشيخ سعيد مرعي، وكان إمام الجامع الكبير في جنين وكان يجود القرآن الكريم في طريقة رائعة وكنا نحن الأولاد نجلس قربه من دون ان نفهم ما يقول. جاء يعلمنا، فقرأ الاسماء وقال لي: أنت يا ولد نصراني، اطلع. قلت له: لا اريد الخروج. قال لي: هل قبل ابوك؟ قلت له: معلوم. والدي كان متوفيا منذ ست سنوات، قبل. ومنذ ذلك الوقت حضرت الدروس العربية كاملة، حتى حين ذهبت الى دار المعلمين في القدس حضرتها أيضا وتعلمت آيات وسورا كثيرة من القرآن الكريم منذ ذلك الوقت، فمعرفتي واتصالي بالقرآن الكريم بالنسبة الى المسيحيين شيء غريب. يوم من الايام، دخل الشيخ سعيد الى الصف، وسأل عن مناقض الوضوء، فلم يعرفها أحد سواي. رفعت يدي، فاحتار ثم قال: قل. فرويتها له رواية كاملة، فالتفت وقال: «يا عيب الشوم عليكم، انتم لا تعرفون وهذا «الكافر» يعرف. هذه اتت معه هكذا». وظلت - بعدما تركت المدرسة - صداقة بيني وبينه وكنت أزوره في البيت.

فكرت وأنا في الثالثة عشرة، ان اشتغل واساعد والدتي. بلغني انه في حاجة الى موظف على الهاتف في جنين، فذهبت الى مدير دائرة الهاتف وهو من بلدتنا «الناصرة»، وقال: قدم امتحانا. وأنا كنت اعرف بعض الانجليزية تعلمتها في الناصرة. قال: نجحت في الامتحان. ثم سأله المسئول هناك: كم عمره؟ قال له: 13 سنة، فقال له: «من يعين ابن 13 سنة يعمل ليلا ويتحمل المسئولية. كشه». وطردني من الوظيفة. لاحقا فرغ منصب موزع البريد في جنين، قلت هذا بسيط لا عمل في الليل. ذهبت الى المدير ولا اعرفه. فقلت له قصتي، اريد ان اعمل لأساعد امي. قال: هل تعرف كيف ينقل البريد في جنين؟... قلت له: يأتي بالقطار من حيفا. فقال: هل تعرف ان المسافة بين البلد والمحطة بالكيلومترات؟ وهل تعرف اننا نستأجر حمارا لنحضر البريد؟ قلت له: نعم اعرف. فقال: هل يمكنك ان تدير بالك (تهتم) بالحمار. رح يا ولد.

دار المعلمين

كان عمر دار المعلمين سنتين أو سنة ونصف السنة، واعلن ان هناك امتحان دخول في يوليو/تموز 1921، يمكن تقديم الطلبات على ان يكون عمر الطالب 15 سنة، وانا عمري 13 سنة ونصف.

كان مختار الحارة الغربية في جنين، مختار حارتنا، وكان عدد سكان البلدة آنذاك 4 آلاف بينهم 43 مسيحيا. كان المختار يعرفني آنذاك. كان كبار الموظفين في جنين يجولون على الدوائر المختلفة ومنها المدرسة. وزار يوما مفتي جنين الشيخ أديب الخالدي المدرسة وطلب من مديرها ان يجمع تلامذة اكبر ثلاثة صفوف لأنه يريد ان يملي عليهم بيتين من الشعر، ليرى الى أي حد يستوعبون.

جمعنا. البيت الأول لا أذكره، لكن المسألة في البيت الثاني: فمن لا كرى ولا درى ولا درس/ شتان ما بين حمار وفرس.

والفكرة فيها هي قرا ودرى. كتبناها، وجمعت الأوراق، وتبين اني الوحيد الذي ضبطها. وكان في المدرسة تلامذة اكبر مني وأنا اصغرهم. فصار الشيخ اديب الخالدي يقول ويتحدث عن هذا الولد الكبير، نقولا زيادة.

الحاج حسن، مختار الحارة الغربية، كان من الذين سمعوا الخبر وكلما مررت من هناك، كان يناديني ويقول لي: يا ولد هل مازلت شاطرا؟ وأقول له: نعم يا عم الحاج حسن.

عرضت عليه القضية في منتهى البساطة، أنا في حاجة الى شهادة تثبت انني مولود في جنين وان عمري اصبح 15 سنة.

كتب لي شهادة ميلاد على الطريقة القديمة، وضع ركبة على ركبة، وكتبها وأحضر الختم فختمها، وجاء فيها: نشهد ان نقولا زيادة مولود في جنين في 2 ديسمبر/كانون الأول 1905. هذه الشهادة لا قيمة لها، بذلك التوقيع، والتوقيع سيتم عن طريق القائمقام، وكان انجليزيا، كنت اعرفه لأنه كان يلعب كرة المضرب ويزور المدرسة.

الحظ اراد ان يخدمني اذ عين قبل ثلاثة اشهر، مساعدا له، شخص عربي اسمه عارف العالم، ولم اكن اعرفه. زار المدرسة وانتبه الى اجابات مختلفة مني. واحيانا التقيه في الطريق، احييه فيرد التحية. ذهبت اليه، وقلت له قصتي كذا كذا. انت لست مكلفا ان تكذب، كل ما هو مطلوب منك ان توافق على امضاء المختار. استدعى الكاتب وطلب منه ان يسجل هذه الرسالة داخلة وخارجة ووقعها وقال لي: مبروك يا بني. اصبحت لديّ وثيقة تخولني الدخول. ذهبت الى القدس، واجرينا الامتحان في يوم ونصف يوم. وشمل مواد التاريخ والجغرافيا والقراءة والكتابة، وكان موضوعها اكتب رسالة الى مدير دار المعلمين تبيّن سبب رغبتك في دخولها على ان تشكل الكلمات كلها، أواخر وأواسط...

في اليوم التالي ظهرا، اعلنت النتائج، وكنت واحدا من الفائزين. كان هناك فحص طبي، كنت مطمئنا. اعلنت النتائج وكنت فرحا. كنت اقفز سرورا، واذا بشخص يضع يديه على كتفي. فاذا به مدير الدار، وقال لي: انت عمرك اقل من 15 عاما. لكن يا بني نحن قبلناك غصبا عنا، لا يمكننا إلا ان نقبلك، كنت الاول بين 87 طالبا

العدد 8 - الجمعة 13 سبتمبر 2002م الموافق 06 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً