العدد 27 - الأربعاء 02 أكتوبر 2002م الموافق 25 رجب 1423هـ

الناصرية جمع للمتناقضات وتكريس للاحسم

ما الجديد الذي يمكن قوله في حق عبدالناصر، بعد تدبيج عشرات الكتب ومئات الدراسات وآلاف المقالات؟ وما الإضافة التي يمكن تسجيلها بعد مرور نصف قرن على الثورة التي قادها لاغيا الملكية؟ وما دلالة أن يصدر كتاب لمؤلف بحريني عن التجربة الناصرية بكل ما لها وما عليها من نقاط إيجابية أو سلبية؟ هل المسألة مجرد حنين لزمن مهما قيل عنه يمثل ذروة حماسية، أم إعادة مراجعة وتفنيد للمرحلة، بعد إزاحة اللبوس العاطفي الذي اجتاح إنسان تلك الفترة، فجعله قليل التمييز، أم أن الفترة الزمنية الفاصلة الآن كفيلة بتقديم وجهات نظر ورؤى هادئة، بعد كل هذه التراكمات من القراءات المختلفة، بعضها شاهد على معاناة فردية أو جماعية، وبعضها وجد في ذلك الزمن صورة بارقة مشعة قياسا بالتالي من الأزمان والأوقات، وبعضها الآخر جاء موازيا ومحاذيا وناقلا صادقا كما تمثل ذلك في نصوص الأدب؟

كتاب الدكتور محمد جابر الأنصاري «الناصرية بمنظور نقدي، أي دروس للمستقبل؟ تجربة فكر عبر نصف قرن» «المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 2002» محاولة لقراءة التجربة في تشكلها واختمارها، ثم في صعودها واكتساحها الجماهيري، انتهاء بفشلها المدوي الذي مازالت بعض آثاره ماثلة للعيان، وصولا إلى بحث في أسباب الفشل، والركائز الرئيسة التي أدت مراوحتها تاريخيا وسياسيا واقتصاديا مكانها، بعد دعوتها إلى الخلاص من الأنظمة الفاسدة ثم إتيانها بالفساد نفسه. ويمثل هذا الكتاب إعادة قراءة تجربة عبدالناصر بوصفه فردا، وبوصفه ظاهرة خاصة، وبوصفه قائدا عاش المتناقضات وآلف بين المختلفات التي يصعب إقامة تآلف بينها ولو نظريا، ويورد المؤلف في كتابه جملة بليغة تكاد تكون تلخيصا لما يريد قوله: «وفي قلب هذه الإشكالية كان عبدالناصر بطلا تراجيديا متوترا في باطنه، وقد لبس قناع التوفيق السعيد المتفائل. فلقد كان الرجل ثائرا ومحافظا، ولقد كان عنيفا ومسالما، ولقد كان مقدما ومحجما، ولقد كان محررا ومستبدا، ولقد كان مؤمنا ومتسائلا، ولقد كان مكملا وناقصا».

ويذهب المؤلف إلى أن ثورة 1952 وإن أزاحت الملكية إلى غير رجعة، قاطعة الطريق أمام الفساد المستشري، إلا أنها أعادت الكرة مرة أخرى ببناء هرمي طاول الفساد أكثر الأماكن دقة وحساسية وفاعلية فيه، ليكون اللوم والفشل ملتصقا بقمة الهرم ورأسه، كونه المسئول الأول.

بهذا المعنى يتجه الكتاب في مقولته الرئيسة إلى إعادة نقد هذه التجربة، التأكيد على أكثر من قضية أبرزها الاستفادة من الدرس التاريخي كونه منعطفا حاسما في التجربة العربية، وإلى الاعتبار من أسباب الفشل، فليست العبرة في شكل الحكم، وإنما في تعامله مع قضية الفساد، ونهوضه بآليات تضع في اعتبارها العوامل الداخلية والخارجية كافة.

يبدأ الكتاب بالتأمل في أسباب سقوط أقدم ديمقراطية عربية تمثلت في حكم ملاك الأراضي والإقطاعيين عبر الإتيان بمهاد رُسمت فيه خريطة للتيارات الفكرية الصاعدة من خلال آثار المفكرين التي تؤكد حال البلبلة التي سبقت الثورة، أو حال اللاحسم وصراع الأضداد - كما يفضل المؤلف دائما - من أوضاع متردية جسدها النموذج الليبرالي المعمول به، وعليه كان صعود تيارات الاشتراكية والماركسية وتيار الإخوان تنظيرا، أو التيارات التوفيقية على حساب الليبرالية المتصدعة بزيها الرأسمالي في السنوات القليلة التي سبقت الثورة. وكل هذا بهدف تأكيد حال التأزم الحضاري، وحالات المراجعة المستمرة لأسباب إخفاق النهضة العربية، والتي حددها في أربع اتجاهات هي: العلاقة المتوترة بين الإسلام والحضارة الحديثة، تأخر الاستقلال وعدم الاستقرار على صيغة معينة لانتماء مصر هل هي: إسلامية أم متوسطية، أوروبية أو عربية؟، وبروز الفكر الماركسي والاشتراكي، وأخيرا الآثار التي خلفتها نكبة 48 والتي أفضت إلى انبثاق تيارات متشددة متناقضة فيما بينها، تتسم بالشمولية والإطلاق. ووسط هذا الخليط جاءت ثورة 52 بحمولة توفيقية مرنة ومتصالحة، انطلاقا من وسطيتها المجتمعية/ انتماءاتها الطبقية.

في الفصل الثاني من الكتاب يبحث الأنصاري في جذور التفكير الناصري قبل أن يصير إلى دفة الحكم من خلال تركة الزيات، التي جاءت في معظمها في افتتاحيات الرسالة، وفيها تأكيد أو تبشير بالقضايا الإصلاحية الكبرى التي جاءت الناصرية بعد ذلك حاملة لواء العمل على إنجازها. وفي نقلة أخرى من الفصل الذي عنونه المؤلف «في انتظار الثورة وبطلها الملهم» يتحدث الأنصاري عن صورة عبدالناصر كما أوجدها المخيل الشعبي، وكما حللتها النظرة السيكولوجية، أو عبر قراءاته الأولية التي شكلت الحمولة الفكرية التي يمتلكها من الآداب المختلفة التي تمجد البطولات الفردية! بالإضافة إلى أبرز الملامح الأولية في حياته، والتي صاغت هذه الشخصية المتمردة ليكون عنيفا في تعاملاته وفي نظرته، لتتسم شخصيته بالعنف - أو البطش - بخصومه، أو بنظرته الأبوية المتسمة بالفوقية على الدول الصغيرة وقادتها، كما انعكس ذلك على حبه لأمته وبلده بالمقابل، وهكذا يمضي هذا الجزء بالاعتماد على حمولة نفسية تحاول إبراز الجوانب الخاصة من نفسية عبدالناصر الذي فقد أمه منذ نعومة أظافره وتربى في كنف عمه.

النقلة الثالثة في الكتاب تذهب إلى تعميق النظر في مرجعيات عبدالناصر، عبر استنطاق كتابه «فلسفة الثورة» كاشفا عن الشبكة الرومانسية ذات الجذور الفكرية غير الصلبة وغير المتماسكة، علاوة على تأثره بشخصية القائد الفرد البطل الرمز المنقذ في نماذجه المتعددة، إضافة إلى بروز الفكرة نفسها في تنظيرات عدد من المفكرين الذين أتوا بأفكار من قبيل العادل المستبد، أو الرجل الملهم الموهوب، أو الرجل المنتظر، أو الفرعون المعبود، أو أحمس، مُنازل التنين إزاء اليأس والتيه الذي يحيط بالأمة. ويسوق المؤلف بعض الشواهد لتأكيد التناقضات التي وسمت المرحلة بسمتها، فعبدالناصر الثوري كان في الوقت نفسه مسالما يجنح إليه، وينبذ العنف، وكانت الجماهير تدين له، وكان مرتابا منها، ما دفعه لاحقا إلى استئصال المختلفين منهم.

ويناقش الأنصاري في الفصل التالي موقف عبدالناصر من الدين في منحى آخر من مناحي دراسة شخصيته وفكره، ويقرر بانتفاء الانغماس الديني في خطابه. وراح المؤلف يقلب مختلف الصفحات التي كرسها عبدالناصر لنفسه أو كرست عنه، ليجد أن الاستخدام الديني أو التوظيف الديني في خطاباته المختلفة إنما انبنى بصورة ذرائعية لوقائع تاريخية حاسمة، فهو مؤمن بالاشتراكية العلمية من جهة، وغير مقطوع الجذور عن ثقافته الإسلامية، بما يشكل توفيقا غريبا بين المتعارضات.

ويختتم الكتاب بعدد من المقالات تحت عنوان: مراجعات بعد هدوء العاصفة. تقاطعت فيها أصوات كثيرة كلها كانت شاهدة على ما حدث وما سيحدث من قلب الحدث، على المستوى الإبداعي، وعلى المستوى الفكري التحليلي. ليؤكد المؤلف في هذا الفصل أن أولوية التنمية والتطوير والتحديث في مجتمعات ذات تشكيلات متخلفة على مستوى التركيب والقيم كان لا بد لها أن تنطلق لعمل التراكم الحضاري اللازم باستيعاب المتطلبات الرئيسة للعصر لترسيخ الدينامية الاجتماعية، والإنتاج الاقتصادي، وهضم وتمثل القيم العلمية، والاستعانة بالتفكير العلمي النقدي التحليلي، في قالب مشروع نهضوي متكامل يمضي ببطء من دون طفرات أو ارتجالات أو حرق للمراحل. بدلا من الاتكاء على نظرية المؤامرة وحدها تفكيرا، والتعبئة العسكرية عملا، وبالنتيجة النهائية كرست الجهود لمحاربة أحد وجوه التخلف، وتم إغفال الوجوه الأخرى.

والأسماء المستشرفة أو المعلقة على ارتكاسة التجربة والتي استعان بها الأنصاري كانت من التنوع بحيث أضفت شيئا من الحيوية على بعض مقالات هذا الفصل من الكتاب نذكر منها: خليل حاوي - أمل دنقل - نجيب محفوظ - توفيق الحكيم. وغير ذلك من الأسماء التي تعاطت مع للتجربة تفكيرا وتفسيرا وتقييما من زوايا متعددة. وكان الحضور الأدبي في هذا الفصل كما في الفصول السابقة أن أضفى زخما خاصا كنوع من الشهادة ذات المعايير الجمالية المحددة في استشراف ما سيأتي من فشل ونكسة، أو بتقييم ما كان عليه الوضع قبل وأثناء فشل التجربة، التي كرست جهودها لمارد خارجي، مغفلة المارد الداخلي الذي كان إصلاحه وتشذيبه قمين بالحد في عمق الهوة لهذا المنظور الضيق والذي أدى إلى ما أدى إليه

العدد 27 - الأربعاء 02 أكتوبر 2002م الموافق 25 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً