العدد 29 - الجمعة 04 أكتوبر 2002م الموافق 27 رجب 1423هـ

تاريخ مدينة السلام... طبعة جديدة بجهد متميز

يشترك تاريخ مدينة السلام الذي اشتهر باسم تاريخ بغداد لأبي بكر أحمد بن علي المعروف بالخطيب البغدادي (1001م/ 392هـ - 1070م/ 463هـ) في السمات العامة مع مثيلاته من التواريخ المحلية التي تحمل أسماء مدن بعينها مثل: «تاريخ دمشق لابن عساكر، والتدوين في ذكر أهل العلم بقزوين، للرافعي القزويني، والقند في ذكر علماء سمرقند للنسفي، وتاريخ جرجان للسهمي، وتاريخ نيسابور للحاكم، وتاريخ طبرستان لمحمد بن الحسن بن إسفنديار (ألفه سنة 1216م/ 613هـ) وتاريخ بيهق لعلي بن زيد البيهقي (كتب آخر نسخة منه سنة 1167م/ 563هـ)»، فجميعها تبدأ بذكر مناقب المدينة وما ورد فيها من أحاديث نبوية شريفة - إن وجدت، وبعضها مختلف - ثم كيفية بنائها ومتى، مع ذكر خططها والقرى التابعة لها بتفاصيل تتسع كثيرا مما لا نجده في الموسوعات البلدانية، ينتقل الحديث بعدها إلى العلماء والشعراء والأدباء والمحدّثين وكبار الشخصيات ممن ولدوا ونشأوا فيها أو ممن زاروها بتقديم تراجم لحياتهم ونماذج من آثارهم أو رواياتهم، ان كانوا من المحدثين.

صدرت الطبعة الأولى لتاريخ مدينة السلام في القاهرة سنة 1931 مستندة إلى مخطوطة سقيمة متأخرة محفوظة في مكتبة كوبريلي باسطنبول، وعلى الاجزاء المحفوظة بمكتبة الأزهر، وعلى جزء صورة المستشرق الألماني هلموت ريتر سُدّ به نقص كان في مخطوطة كوبريلي، وعلى جزء واحد محفوظ بدار الكتب المصرية. وقد ترك طابعو الكتاب نسخا أصلية للكتاب نسخت في القرن السادس الهجري. فجاءت هذه الطبعة سقيمة مشحونة بالتصحيف والتحريف والسقط، ما أدى إلى سقوط آلاف الكلمات ومئات العبارات والنصوص في أثناء التراجم. ثم توالت طبعات الكتاب بعد ذلك معتمدة هذه الطبعة السقيمة، فكان الناشرون إما ان يطبعوه بالأوفست أو ان يعاد تنضيد حروفه بأخطائه نفسها وسقطه وتصحيفه ثم يُغلف بأناقة وتذهّب حواشي مجلداته ليسر الناظرين، من دون ان يكلف ناشروه أنفسهم بمراجعة مخطوطاته الأصلية المتوافرة.

وممن نبه إلى سوء الطبعة المصرية التي كانت أساس طبعاته اللاحقة، المحقق المعروف محمود محمد شاكر الذي قال: «والمطبوع من تاريخ بغداد، دخله تصرف الناشر، فأنا أتردد في القطع بما فيه». ومنهم أكرم ضياء العمري الذي قضى سنوات يبحث في هذا الكتاب ليصدر دراسته المعروفة عن موارد الخطيب في هذا التاريخ، فهو يقول: «أما الأخطاء التي وقعت في طبعة تاريخ بغداد فكثيرة، منها ما يتعلق بتصحيف الأسماء وقلبها واختلاط إسناد رواية بإسناد رواية أخرى مع سقوط الرواية الأولى، أو سقوط اسم وسط السند وغير ذلك». ومنهم خلدون الأحدب صاحب دراسة زوائد تاريخ بغداد على الكتب الستة الذي يقول: «إن هذه النسخة المطبوعة من تاريخ بغداد - كما هو معروف عن أهل العلم والباحثين - فيها من أنواع التصحيف والتحريف والسقط والقلب ما يوجب الرجوع إلى النسخ الخطية منه لتقويم النصوص واستدراك ما يكون فيها من سقط» (مقدمة بشار عواد معروف، 1/ 180 - 181).

ويجيء بشار عواد معروف - وهو ابن بغداد - صاحب التحقيقات الأنيقة والبحوث الرشيقة ليجول في البقاع جامعا كل ما استطاع جمعه من مخطوطات هذا الكتاب في مكتبات المدينة المنورة واسطنبول وتونس والجزائر ومصر وباريس وبريطانيا وإيرلندا سواء أكانت المخطوطة كاملة الأجزاء أم ناقصة فهو لا يأبى ان يصور حتى الجزء الواحد. وكانت على رأس تلكم المخطوطات المخطوطة التي كتبها مؤرخ دمشق وعلامتها الجليل هبة الله ابن عساكر (1095م/ 488هـ - 1167م/ 563هـ) الذي سمع بهذه النسخة من تاريخ مدينة السلام وقابلها على نسخة الخطيب نفسه على تلميذ الخطيب ببغداد أبي نصر المعمر بن محمد البيع خلال سنتي 1117م/ 511هـ - 1118م/ 512 هـ.

لقد بلغ المحقق بطبعته هذه لتاريخ مدينة السلام الصادرة عن دار الغرب الإسلامي أقصى ما استطاعه من دقة وضبط في عمل سيخلد اسمه في عالم التحقيق - كما هو في أعماله الأخرى وأهمها تهذيب الكمال - من خلال مقارنته جميع تلك النسخ المخطوطة وتلافي كل ما أصاب هذا الكتاب المهم من سقط وتصحيف وما ضاع منه في مئات المواضع من طبعاته السابقة مع ضبط لحركات أسماء الأعلام والمواضع، وخرّج الأحاديث الشريفة وأعطى الرأي في أحايين كثيرة في الصحيح من الضعيف منها.

يكفي ان نشير إلى مثال واحد من السقط الذي حدث في الطبعة الأولى للكتاب لنقارنه بالدقة التي جاءت عليها طبعة بشار معروف، فقد سقط من الصفحة 112 من الجزء الثالث من المطبوعة حوالي سبعة أسطر أدت إلى غموض في الاسانيد فمثلا نقرأ: «أخبرنا محمد بن عبدالباقي بن قانع...»، بينما الصواب كما ورد في طبعة معروف: «أخبرنا محمد بن الحسين القطان قال: أخبرنا محمد بن عبدالباقي بن قانع...»، فهذان راويان وليسا واحدا. كما سقط في الصفحة نفسها بيت الهجاء الذي قاله ابن الرومي في محمد بن العباس المعروف بلحية الليف مع سند الرواية وهو قوله:

أنــت ألحــى معــلمٍ وطــويـــلُ

حسْبنا بعض ذا، ونعم الوكيلُ

وقد سها القلم فنصبت «بعض» في البيت أعلاه، وربما كان خطأ مطبعيا.

ونقرأ في 3/ 63 من الطبعة الأولى في ثلاثة أسطر كيف صحفت «القومسي» إلى «القرشي»، و«دران» إلى «دراق»، و«الرزاز» إلى «البزاز»، ولا يخفى على الباحثين في هذه المصادر ما يؤدي إليه تصحيف كهذا، وقد وقع في الطبعة الأولى المئات من حالات التصحيف هذه مما صححة قلم بشار معروف وأثبته في هوامش طبعته.

عنون الخطيب كتابه بـ «تاريخ مدينة السلام وأخبار محدثيها وذكر قطّانها العلماء من غير أهلها ووارديها»، بحيث نكتشف في هذا الكتاب حشودا ضخمة من العلماء في شتى صنوف العلم من الذين كانوا يفدون عليها فيقتبسون من علمائها ويغادرونها أو قد يقيمون فيها، وكانوا حين يذهبون إلى بلدانهم يشيرون إلى أنفسهم أو يشار إليهم بأنهم اختلفوا إلى فلان وفلان من علماء بغداد وأخذوا عنه الحديث أو العلم أو الأدب. إن هذا الحرص من هؤلاء على زيارة بغداد أو للتزود مما فيها خصوصا في علم الحديث، يكشف عن الصيت الذي اكتسبته بغداد آنذاك وفي القرون اللاحقة بوصفها واحدة من حواضر العلم والثقافة إن لم نقل أشهرها، وما اشتهر به علماؤها من دقة ووثاقة، ويعلل الخطيب البغدادي ذلك حين ينقل عن العالم الحسن بن عرفة قوله: «من لم يوثقّه أهل بغداد فقد سقط، هم جهابذة العلم»، ويعقّب البغدادي فيقول: «فأهل بغداد موصوفون بحسن المعرفة والتثبت في أخذ الحديث وآدابه وشدة الورع في روايته، اشتهر ذلك عنهم وعرفوا به حتى قال إسماعيل بن علية: ما رأيت أحسن رغبة في طلب الحديث من أهل بغداد». ويضيف الخطيب أيضا: «وقل ما يوجد - بحمد الله - في محدثي البغداديين ما يوجد في غيرهم من الاشتهار بوضع الحديث والكذب في الرواية» (1/345 - 346).

أخيرا ينقل الخطيب شهادات بحق مدينة العلم هذه فيروي عن يونس بن عبد الأعلى قوله: «قال لي محمد بن إدريس: يا يونس دخلت بغداد؟ قلت: لا. قال: يا يونس ما رأيت الدنيا، ولا رأيت الناس». و«قيل لرجل: كيف رأيت بغداد؟ قال: الأرض كلها بادية، وبغداد حاضرتها (1/347). ثم هذه الشهادة لمحمد بن علي الهمذاني (1/356):

فدى لـــك يا بغــداد كـــل قبيــلــةٍ

من الأرض حـتى خطـتي ودياريــا

فقد طفت في شرق البلاد وغربهـا

وسـيرت رحــلي بينهـــا وركــابيـا

فلــم أر فيهـا مثـــل بغـــداد مـــنزلا

ولم أر فيهـــا مثـــل دجلـــة واديـــا

ولا مثـــل أهليهــــا أرق شـــمائـــلا

وأعــذب ألفاظــا وأحلــى معــانيا

يقع هذا التاريخ الجليل في 16 جزءا وخصص الجزء السابع عشر فيه للفهارس وهي وافية وكنا نتمنى لو وضع بينها فهرس بالأشعار الواردة في الكتاب لأهمية هذه الأشعار إذ ذكر المحقق الفاضل في مقدمة الكتاب «إن رواية الخطيب لهذا الشعر تمثل رواية مستقلة لا علاقة لها بالدواوين المصنوعة لبعض المترجمين» (1/220).

حقا إنه جهد ينفع الناس وهو مما يمكث في الأرض. ونتمنى لو يمّم المحقق وجهه شطر ذيول تاريخ بغداد فأخرجها بحلة نحن على يقين من أنها ستكون قشيبة.

شاعر عراقي

العدد 29 - الجمعة 04 أكتوبر 2002م الموافق 27 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً