من ضمن الحكايات المرتبطة وإن بصورة غير مباشرة بمسار كيم فيلبي، وكان من شأنها لو تمت فصولا، ان تكشف سره رسميا، مثل انكشافه بزمن بعيد، تلك المعروفة باسم «حكاية آل بتروف». وملخص هذه الحكاية انه في فبراير/شباط 1951، اي قبل ثمانية اشهر من التحقيق /المحاكمة الذي اجري للمرة الاولى مع فيلبي، اي ما ان بدأت الشكوك الجدية تحوم حول بارغس وماكلين، خيم خطر جديد من النوع الذي مثله غوزنكو، من حول فيلبي. وهذا الخطر جاء عن طريق فلاديمير ميخائيلوفتش بتروف الذي كان لتوه قد عين قنصلا للاتحاد السوفياتي في كانبيرا (استراليا). فهذا القنصل سرعان ما وجد نفسه على شقاق دائم مع السفير ليفانوف، ما جعل المخابرات الاسترالية تحصل على مؤشرات واضحة عن ان من شأنه، لو سوعد على ذلك، ان يتحول إلى الغرب ويطلب اللجوء السياسي. بعد ذلك حين ابدل ليفانوف بالسفير جنرالوف، الذي راحت زوجته تتشاجر يوميا مع زوجة القنصل بتروف تدافعت الحوادث.
وبما ان زوجة بتروف كانت تعمل مع المخابرات السوفياتية منذ عشرين سنة، اخفى بتروف نواياه حتى عن زوجته. وهو حين غادر مبنى السفارة للمرة الاخيرة يوم 5 ابريل /نيسان 1954، توجه إلى حيث يُطلب من الاستراليين منحه حق اللجوء السياسي. وكان قد حمل معه - بغية تسهيل الامور - عددا من الملفات المهمة.
ولم يتأخر رد فعل موسكو: على الفور وضعت قيد المراقبة داخل مبنى السفارة، وتقرر اعادتها - ولو بالقوة - إلى الوطن على متن طائرة تغادر يوم 18 من الشهر نفسه. ولقد ادى هذا الموقف إلى اثارة الرأي العام الاسترالي، وخصوصا ان بتروف راح يوميا يعبر عن قلقه إزاء المصير الذي يتنظر زوجته في موسكو. وهكذا حدث في اليوم المحدد لتسفير الزوجة ان تولى السكرتير الثاني في السفارة السوفياتية كيسلنسيني الاشراف بنفسه على نقل السيدة بتروف إلى المطار في سيدني. وكانت خلال النقل تجلس في المقعد الخلفي لسيارة تابعة للسفارة محاطة بـ «دبلوماسيين» هما كارينسكي وخاركوف.
وفي المطار تجمع جمهور استرالي صارخا غاضبا، فيما كان الروس الاربعة يسيرون بخطى وتيدة نحو طائرة من نوع كونستسلامتن تابعة للخطوط الجوية البريطانية. وحين اقتربت الجموع اكثر من اللازم من خط سير الروس الاربعة، بدأ موظفو السفارة يقلقون، وامسكوا السيدة بتروف بساعديها دافعين بها إلى سلم الطائرة. اما السيدة فإنها، اذ اثارها تصرف مواطنيها معها، حاولت ان تدفعهم بعيدا عنها. وطبعا بالنسبة إلى الجمهور المتجمع كان المشهد اشبه بما يحدث في فيلم سينمائي هوليوودي: ثلاثة اشرار روس يدفعون سيدة لا حول لها ولا قوة، وضد ارادتها نحو الطائرة التي ستوصلها إلى موسكو. وهكذا علت صرخات الغضب والاشمئزاز... وكان الامر كله دعاية صارخة للغرب على حساب موسكو بالطبع.
في نهاية الامر، انطلقت الطائرة نحو مدينة داروين، المحطة الاولى في طريقها نحو موسكو. لكن اجهزة الاستخبارات الاسترالية لم تكن قد فقدت الامل في «انقاذ» السيدة بتروف، وخصوصا ان السيدة إلى حد ما كانت تبدو غير ميالة إلى مواصلة الرحلة حتى ولو كانت في حقيقتها عملية سوفياتية. وهكذا راح المضيفون يتحدثون إليها وبدت متضايقة من تحدثها بالروسية في كل مرة توجهت فيها إلى دورة المياه زاعمة ان رأسها يؤلمها. في نهاية الامر غرقت السيدة بتروف في دموعها واعلنت امام فريق الطائرة نيتها البقاء في استراليا، وقالت - علنا للمرة الأولى - انها تذهب إلى موسكو من دون ارادتها. وكان هذا الاعلان كافيا، لكي يتصل قبطان الطائرة بمطار داروين مفصلا ما يحدث. وهكذا حين حطت الطائرة عند الخامسة والنصف صباحا في مطار المدينة، قفز رجال الشرطة الاسترالية الى متنها، وتمكنوا، بعد صراع سريع من نزع اسلحة كاربنسكي وخاركوف. أما السيدة بتروف فقد اقتيدت الى مبنى المطار حيث زودت بجهاز هاتف مكنها من التحدث إلى زوجها.
بعد ذلك انضمت السيدة إلى ذلك الزوج، وحصل الاثنان على اللجوء السياسي وعلى هوية جديدة باسم كرويندس، ما مكنهما من أن يشهدا بحرية في العام 1954 أمام لجنة ملكية استرالية، واعطيا تفاصيل وملفات عديدة تتحدث عن خيانة بارغس وماكلين، مؤكدين انهما يعملان لحساب السوفيات منذ تخرجهما في كامبردج. واذا كان قد جاء في افادتهما شيء يخص كيم فيلبي، فإنه - ايضا هذه المرة - جاء من دون اية أدلة او براهين: مجرد تخمينات، وثار السؤال لاحقا: لماذا؟ ومن كانت له في ذلك الحين مصلحة من اخراج فيلبي من القضية كالشعرة من العجينة؟
العدد 29 - الجمعة 04 أكتوبر 2002م الموافق 27 رجب 1423هـ