في مدخل محلِّ مستطيل ضيق يجلس الرفَّاء سعد عياد، يستضيء بنور الشمس فيوفر الكهرباء، ويحصل على إنارة طبيعية تعينه على حرفة يؤكد العارفون انها ترهق العينين، وقد تذهب بالبصر.
سعد عياد واحد من رفّائين قلائل ظلوا اوفياء للحرفة، أو قل: إن المدينة اصطفتهم من أصل عشرات الرفّائين الذين طالما زحموا اسواق بيروت القديمة بـ : البازركان وسرسف والطويلة والنورية... فوق ذلك ابعدت الحرب هؤلاء القلة إلى الاحياء الجديدة ثم سدّ عليهم عمران الوسط التجاري طريق العودة.
والحرفة تذكرنا بأسطورة جلجامش، فهي تجدد شباب الثياب القديمة، وترمم الثياب الممزقة، وكانت ملاذ الحريصين على ثوب ذي قماش فاخر ولكن مزقه مسمار أو «مسكة» باب، وكانت ملاذ غير الميسورين العاجزين عن استبدال ثوب تمزق بثوب جديد.
والأرجح ان حال الحرفة في المدن العربية لا تختلف عنها في مدينة بيروت. ولا ريب في ان تغير العادات الاستهلاكية لعب دورا في تقهقر الرفائين عددا ومستوى معيشة. فالثوب الذي يمكن شراؤه من محلات الألبسة التي تكثر حتى في الأحياء الفقيرة، ولاسيما في مواسم التنزيلات، يغني اليوم عن رفو ثوب ممزق عليك الاستغناء عنه وقتا إلى أن يتم رفوه، وعليك دفع أجرة رفوه مبلغا اذا اضفته إلى ثمن الثوب الجديد تجد انك رابح.
غير أن الرفائين يعملون ويرتزقون ويجدون إقبالا من الناس. فالحاجة إليهم يفرضها مستوى الثوب، غير خبرتهم في مجال رفو الثياب الجلدية. والطريف - كما يروي الرفاؤون وبعض الزبائن - أن التمزق يختفي بعد الرفو في الكثير من الحالات، إلا ما تعذرت مطابقة لون خيطه مع لون خيوط الثوب بعد الاستعمال وأثر الشمس والمطر.
والرفو عملية دقيقة لا يتقنها الجميع، وهو حرفة الخبراء القادرين على التسمر ساعات طويلة، والتحديق في إبرة وكستبان وخيط، هي عدة الرفاء إلى جانب المقص والمكواة.
تتحرك أصابع الرفاء وبعناية تغرز الابرة في الموضع المناسب، وتجر الخيط كما لو أنه على نول حياكة. ويشترط في هذه العملية أن تحقق أمرين:
إزالة التمزق وتوفير المتانة، خصوصا حين يكون التمزق في موضع دقيق من الثوب يظهر للناظر ويتلقى ضغطا.
والمعروف أن الرفائين ليسوا وحدهم مَنْ ينهض بالعبء... فالكثير من سيدات البيوت يحسن الرفو، فلا تحتاج الواحدة منهن إلى زيارة الرفاء وانتظار الايام والساعات ودفع مبالغ يمكن استثمارها في شئون أهم.
أمور نضعها في الحسبان ونحن نقف بباب الرفاء سعد عياد ونقطع عليه تركيزه... ومعه نستعيد ايام العز في سوق البازركان، في باطن بيروت ما قبل الحرب، وهو يتذكر معلمه ويترحم عليه: «علمني المعلم علي البرجاوي، رحمة الله عليه كنت طفلا عندما التحقت به، وانا بشطارتي تعلمت وأتقنت».
وها أنت تستقل بوصفك محترفا. فمنذ متى استقلّيت؟
- عمري خمسون سنة، سلخت منها أربعين في هذه المصلحة. وبدأت في سوق البازركان، وانتهيت هنا في محلة عائشة بكار.
هل تحتاج مهنتك إلى قدرات؟.
- هي تحتاج إلى نظر كنظر الصقر... تحتاج إلى صبر وطول بال... وقليلون القادرون على تعلمها.
ولكنك حتما علَّمت احدا.
- علمت كثيرين، ودعني من ذكر الأسماء.. هم ناجحون اليوم.
وزبائنك؟
- يأتي أناس من مختلف الطبقات... تأتيني الثياب ذات القيمة الغالية، وأما الرخيصة فيرمونها ويشترون غيرها.
في حرفتك فن، أم هي الخبرة والمعلمية؟
- الفن في الخبرة و«المعلميّة»... عليك دائما العثور على الخيط الملائم حين لا يسعفك خيط متغير اللون تسحبه من الثوب نفسه... وعليك أن تنسي الزبون موضع التمزق...
- ولكن احيانا ما نلاحظ أن الثوب ظاهر «الرتي».
هذه مشكلة الثوب... قد لا يعطي اكثر من ذلك. المهم أن اكثر علمنا ينجح.
تعلنون عن رفو الجلد ايضا. فكيف ذلك؟
- نستعمل خيوطا مخصوصة، ونكوي الجلد بعد الرفو... فلا يظهر أثر التمزق... نفعل ذلك ايضا بفرش السيارات... أنا رفوت سقف سيارة عجز عن رفوه غيري.
ماذا عن مستقبل حرفتك، مادامت الثياب الجاهزة مبذولة بكثرة، ويقدر على أثمانها الناس؟
- حرفتنا تدوم اذا تعلمها الاجيال... فالثياب الغالية الفاخرة تحتاج إلى رفو، ويصعب الاستغناء عنها.
الرفاؤون صاروا قلائل، ولكنهم موجودون... وقد تعبر بهم فلا يثيرون انتباهك... ولكنك تشعر بهم يملأون مجال نظرك حين تحتاج إليهم، أو حين تكون آلة التصوير معلقة على كتفك... ذلك أنهم فلذات من ماضٍ تختفي ملامحه تدريجيا خلف أستار الجديد الزاحف من الغرب، فحري بنا أن نوثّق حرفتهم!
العدد 35 - الخميس 10 أكتوبر 2002م الموافق 03 شعبان 1423هـ