سأستخدم عبارة «عدم ليبرالية الديمقراطية»، وقد اخذت هذا التعبير من مقالة كتبها فريد زكريا في جريدة Foreign Affairs، وقد ذكر في مقالته هذه بأننا يجب أن نميز بين شكليات الديمقراطية وفقدان المبادئ الدستورية وقيم الحرية.
هذه المجلة هي إحدى المطبوعات المؤثرة في السياسة الأميركية، وأهمية ذلك المقال هي أنه يسمح لشخص مثله ولآخرين غيره بانكار النواتج الديمقراطية للانتخابات في الجزائر في العام 1992. وطبقا لكلامه فانه من الواضح أن الجزائر لا تحمل ثقافة سياسية تتعلق بالدستورية التحررية.
وانا أرى أن كل نظرية ديمقراطية وكل ممارسات ديمقراطية هي في الواقع مبنية على مبادئ اللامساواة وليس على المساواة.
ما دفعني لقول ذلك هو رغبتي في تمهيد الارضية للمفكرين فعندما يبدأ المفكرون المسلمون في التفكير والكتابة عن موضوع الديمقراطية فلا داعي أن يتخذوا موقفا دفاعيا. في الوقت الذي لا تنادي الديمقراطية بالمساواة لا في النظرية ولا في التطبيق.
عندما اقول إن كل الديمقراطيات في النظرية وفي التطبيق «غير تحررية» فإن هذا يفترض بل انه في الواقع يؤسس فئة سياسية. أقول هذا لأن الصيغة التي وضعها جون لوك هي صيغة من صيغ الديمقراطيات المقيدة، وتحديدا دور الملكية كأساس للعقد الاجتماعي ولبناء المجتمع الديمقراطي.
أود أن انتقل بسرعة الى جيمس ميل وجون ستيوارت ميل وهما يريان أن دور النخبة المثقفة هو قيادة الفقراء، وهم الذين يعطون القيادة أمثلة للمجتمع الديمقراطي.
عندما نتحدث عن الديمقراطية في أميركا فإن مناقشة التجربة الأميركية مع الديمقراطية بشكل دراماتيكي يؤدي هذا الغرض.
المؤسسان هما جيمس ماديسون وألكسندر هاميلتون اللذان أنشا الدستور الاميركي على أساس فصل السلطات وعلى أساس الضبط والموازنة بين السلطات وذلك لاحباط إرادة الغالبية، والتي يشار إليها بالغالبية.
فما فعلاه ببساطة هو تأسيس نظام في الولايات المتحدة يضمن استبدادية الأقلية أو بعبارة أخرى حكم فئة سياسية في أميركا.
قد يبدو هذا غير اعتيادي نوعا ما وقد لا يبدو كذلك، ولكنه وصف للسياسات الأميركية. لدي معلومات معتمدة عن هذا الأمر كما أن مركز العلوم السياسية في الأربعينات والخمسينات والستينات قام ببحوث تجريبية توثق كل ما تحدّثت عنه. الأمر الذي يوضح أن الديمقراطية الاميركية في الواقع تطبق على الاساس الآتي: هناك فئة سياسية مثقفة وهي التي تشكّل الرأي العام.
فإذا تم تشكيل الرأي العام وتم عمل مسح له وحين تكون نتائج هذا المسح لصالح هذا الامر او ذاك فإن ما يحدث هو أن الفئة السياسية هي التي حددت النتائج مسبقا.
عندما نتناول موضوع مواجهة المثقفين الاسلاميين لهذا السؤال فسنجد شيئا كثيرا من الواقعية بهذا الخصوص.
الواقعية هي التعرف على السياسات الديمقراطية باعتبارها سياسات تتعلق بالنخبة. الشرق الاوسط فيه نخب مطوقة جيدا وفعّالة، وهي حتما جزء من الهيكل القيادي ومن مركبات دولة الديمقراطية.
يبدو لي ان التحدي هو في مواجهة ما وصفته للتو، والعمل بشكل بنّاء للوصول الى ناتج اكثر ديمقراطية.
ولذلك أعتقد ان التحدي هو التصرف بشكل أكثر دقة وواقعية وتقييم ما يعتبر في الواقع من مبادئ الديمقراطية من ناحية ثم التعرف على ملامح الثقافة الاسلامية السياسية والمجتمع الشرق أوسطي، وذلك للحصول على ما يوافق ويقوّي هذه المبادئ الديمقراطية.
لتأسيس هذا النقاش أرى ان ما نحتاجه هنا هو تعريف أكثر اختصارا للديمقراطية. أساسيات الديمقراطية أولا هي من مسئوليات الحكومة أي ببساطة جعل الحكومات مسئولة عن الناس وعن الفئة السياسية. ثانيا يجب أن تكون هناك مشاركة سياسية. فهي إذن المسئولية والمشاركة السياسية وحرمة الأفراد وحق الأفراد في الحرية.
هناك الكثير من الميزات الأخرى للديمقراطية مثل المساواة، والمساواة بين الجنسين والعلمانية، والتعددية وهي أمور قابلة للتفاوض الثقافي. هناك امور نحتاج إلى أن نناقشها بجدية لكي نجد تعريفا ذا مغزى ثقافي، ولكي نصوغ نظرية ديمقراطية تناسب المجتمع الاسلامي.
وهي ليست مفاهيم تحررية للديمقراطية، وهو الامر الذي أتناقض معه، وهو ما سيكون اساسيا للديمقراطية الاسلامية. أود ان اشير الى ثلاث نقاط بخصوص هذا الموضوع.
مثلا مسألة التعاطف مع الدولة الديكتاتورية. هناك حاجة لمثل هذه الدولة وأقصد الدولة الديكتاتورية وليست الفاشستية. هناك اتفاق بين الدولة وبين المجتمع المدني. في حال مصر ايام جمال عبدالناصر كان هذا واضحا تماما. الاتفاق الذي أتحدث عنه هو اتفاق ضمني. هناك فئة سياسية تحكم المجتمع، وإذا لم نصدق ذلك فنحن لا نعرف شيئا عن الشرق الأوسط أو علم الاجتماع.
معظم نظريات التعددية في النظريات الديمقراطية الغربية هي في الحقيقة نظريات تقوم على اساس النخبة، وهذا ما يطرحه جوزيف شمبتر وجيوتان موسكر. عندما يتحدثان عن التعددية فانهما يتحدثان عن فصل النخبة السياسية، وليس عن تنظيم المجتمع على أساس المجموعات.
بالاضافة الى ان مبدأ المجتمع المدني ليس مجتمعا شعبيا. المجتمع المدني تقريبا هو ظاهرة من ظواهر حكم النخبة. النخبة تملأ مواقع القيادة في مجموعات تحكم المجتمع.
أخيرا فإن الاجماع على الرأي بدلا من المنافسة هو اساس صناعة السياسة وهذا يقود الفرد إلى التفكير بجدية في مفهوم الديمقراطية الشوروية. هذا يشابه حقيقة ما يحدث في المنطقة بشكل كبير.
نختتم الحديث بعودة الى السؤال عن النخبة السياسية الامر غير الموجود في العالم الاسلامي وفي الشرق الاوسط تحديدا هو وجود فئة سياسية تحشد أخلاقيات الخدمة العامة والاحترام العام. الفئة السياسية التي تدير الأمور في الشرق الاوسط اليوم استغلالية وفاسدة. التناقض هنا هو بين ما يشار إليه احيانا بالقيم الآسيوية أو النظام الآسيوي.
اقتصاديو البنك الدولي كان لديهم الكثير من التخمينات خلال السنة أو السنتين الماضيتين، وفي الستينات كان دخل الفرد في الشرق الأوسط مساويا لدخل الفرد في تايلند وأندونيسيا وماليزيا وغيرها. أما اليوم فإن الدخل في هذه الدول وعلى رغم الانحسار الاقتصادي يساوي عشر أو 12 مرة أكثر من الموجود في الشرق الاوسط. أنا اعتقد أن التغير الاساسي هنا هو دور الفئة السياسية.
وهكذا فإن أحد الاحتمالات الممكنة هو أن يغرس الإسلام مبادئ أخلاقية لدى الفئة السياسية حتى نحصل على فئة سياسية مسئولة اجتماعيا بدلا من الفئة غير المسئولة اجتماعيا الموجودة الآن.
النقطة الأساسية هي محاولة التخلص مما أعتقده واقع اللامساواة في النظرية الديمقراطية، وبذل الجهود ومواجهة التحديات والتفكير بتركيز في هذا الامر أو في نظرية مناسبة للسياسات الاسلامية الديمقراطية.
أستاذ الدراسات الاسلامية بواشنطن
العدد 35 - الخميس 10 أكتوبر 2002م الموافق 03 شعبان 1423هـ