سؤال محير كان وما زال يشغل اهتمام المؤسسة الأكاديمية والسياسية الغربية - وبدرجة أقل دوائر النخبة الفكرية والسياسية في العالم الإسلامي - يتعلق بمصير الإسلام سواء في مستوى أرصدته الرمزية والأخلاقية أو في حركاته السياسية والاجتماعية في ظل تسارع حركة العولمة في مختلف وجوهها الثقافية والاقتصادية والإعلامية. فهل حركة العولمة تمثل تحديا حقيقيا لعالم الإسلام ومصائر شعوبه المترامية في مختلف قارات العالم؟ هل تدفعه إلى موقع الضمور والانكماش أم تساهم في تجديد لغته وتعزيز وضعه؟
نزع الخطاب الأكاديمي والإعلامي الغربي في معرض الإجابة عن هذا السؤال في صورته الغالبة إلى تأكيد الطابع الامتدادي الكاسح لمشروع العولمة الذي يجتاح الثقافات المحلية الحصينة توازيا مع امتداد حركة الإدماج الاقتصادي العالمي وسلطة البث الفضائي والمعلوماتية الواسعة. فأمام هذه الحركة الجارفة للعولمة لن تصمد كثيرا الثقافات المحلية ولا العوازل الجغرافية للدول القومية بأسواقها المحمية وشعاراتها ونظام رموزها الوطنية. وإذا ما ظهرت بعض أصوات الممانعة أو الرفض فهي لا تزيد عن كونها حالات احتجاجية منفعلة تأخذ صورة «تعبير أصولي مغلق» أو هيجان قبلي وطائفي من مخلفات العالم القديم لا غير. هذه هي الرؤية التي روج لها الكاتب الأميركي فوكوياما بعد تداعي المعسكر الشيوعي للسقوط معلنا عن نهاية سعيدة للتاريخ الكوني عند اللحظة الليبرالية الأميركية على الطريقة الهيجلية التي ساقت مجرى التاريخ الكوني منذ القرن التاسع عشر عند بوابة أوروبا الحديثة المتماهية بدورها في الروح الجرمانية الألمانية.
أما المفكر الأميركي هاتنجتن فقد حاول الانفكاك من أسر الليبرالية الحالمة لزميله فوكوياما مغلبا روح التصارع والتصادم بين الحضارات والثقافات تناسبا مع حالة التنازع الديني والقومي التي تشق الفضاء الكوني، ولكن هذه التشاؤمية التي عبر عنها هاتنجتن لم تخل بدورها من تصنيف معياري تفاضلي للثقافات والحضارات تحتل فيها الثقافة الغربية في نسختها الأميركية خصوصا موقع الصدارة. فالعولمة من وجهة نظر هاتنجتن لا تؤدي بالضرورة إلى انزياح الحدود الجغرافية ومعها الحواجز القومية والدينية بصورة نهائية بل في الغالب تؤدي إلى قيام ما يسميه الحدود الدموية بين القوميات والأديان.
وبشيء من التقييم السريع لرؤية فوكوياما يمكن القول إنها قد غلبت في حقيقة الأمر الحلم والطوبى على مجريات الوقائع.
فالمتأمل اليوم في الخريطة السياسية الثقافية الدولية بعد نهاية الحرب الباردة يلاحظ أنها أكثر تعقيدا وتداخلا مما شبه له، إذ تبرز إلى السطح مجددا صراعات وتكتلات سياسية عسكرية وانهيارات اقتصادية كبرى هزت مرتكزات النبوة الرأسمالية في جنوب شرق آسيا ووصلت تأثيراتها لاحقا إلى أميركا الجنوبية، وهي كلها معطيات لا تؤشر على «نهاية التاريخ» بقدر ما تؤشر على استئناف بدايات أخرى وشق بوابات جديدة في مجرى التاريخ الكوني مازلنا نجهل مآلاتها ونهاياتها المستقبلية وتدمغ بالدرجة نفسها أيديولوجيا العولمة في شكلها التبشيري الساذج التي ترى في الخريطة العالمية مجرد متلق سالب لحركة العولمة المنبعثة من مراكزها الكبرى - أو ربما من مركزها الأوحد - نحو التخوم والأطراف الهامشية. أما من يضعف رؤية هانتجتن القائمة على مقولة صراع الحضارات فهو اتساع خطوط الصراع وحتى قيام الحدود الدموية لا بين الحضارات المختلفة بل داخل الحضارة والثقافة الواحدة الأمر الذي يدلل على أن الحضارات ليست وحدات صماء في مواجهة بعضها بعضا ولا هي بالضرورة في حالة وئام مع نفسها فضلا عن حالة التدخل والتمازج التي أضحت اليوم تطبع واقع الثقافات والحضارات إلى الحد الذي يجعل من المستحيل الحديث عن ثقافة متجانسة لم تلامسها بصمات ثقافة مجاورة أو مساكنة لها.
إن حركة العولمة على رغم ما يرافقها من بعض مظاهر التوتر والرفض في العالم الإسلامي فليس هنالك ما يدل على إنها تمثل تحديا حقيقيا لعالم الإسلام ومنظومته الرمزية والروحية. صحيح أن هنالك كثيرا من وجود الرفض والاعتراض على بعض مظاهر حركة العولمة وهي مخاوف لم تخل منها قوميات أوروبية عريقة مثل فرنسا المتوجسة من سطوة التأثير الأميركي على هويتها الثقافية والمحلية ومصالحها الاقتصادية الكبرى في ظل تسارع حركة العولمة. ولكن هذه الظاهرة لا يجب أن تحجب عنا الوجه الحقيقي من المسألة وهو كون عمليات الممانعة والرفض في عالم الإسلام لا تتم من موقع الانكفاء القومي أو الانغلاق الديني في مواجهة تيار الكوكبة العالمية بل هي في الغالب اعتراض على مناحي السيطرة الاقتصادية والسياسية اللازمة لحركة العولمة في ظل وجود علاقات دولية غير متوازنة. فإذا صح فعلا أن حركة العولمة تعني في بعد من أبعادها انزياح الحدود القومية وتدامج الثقافات والشعوب مع بعضها بعضا بفضل قدرة أدوات التواصل الإلكتروني والبث الفضائي على اختراق الحواجز القومية والدينية وتفكيك الولاءات المحلية الضيقة، فهذا بكل تأكيد يتقاطع مع بعد العالمية والانفتاح على المصير الإنساني الكوني الذي يراهن عليه الإسلام. وعلى رغم أن الخطاب الإسلامي في صورته السائدة لم يرتق بما فيه الكفاية إلى بعد العالمية بحكم ضغط المشاغل المحلية وشيوع مناخات الاستبداد السياسي وتخلف مؤسسات المعرفة وهي كلها عوامل غير مساعدة على النضج الفكري، إلا أن حركة العولمة - على ما يرافقها من مظاهر التفكك الاجتماعي وحتى الأخلاقي - يمكنها أن تكون عنصرا محركا لكوامن الإسلام وقواه الداخلية للتعبير عن نفسه بلغة العصر والانفتاح أكثر على المصير الإنساني الكوني. فكما تمكن الوعي الإسلامي من مواجهة تحدي الحداثة الغربية منذ مطلع هذا القرن التاسع عشر فكانت الحركة الإصلاحية منذ جمال الدين الأفغاني محاولة للسيطرة عليها وإعادة تصويب مسارها ووجهتها من داخل المنظومة الفكرية والروحية الإسلامية فكذلك اليوم هنالك شواهد كثيرة تدل على أن عالم الإسلام بصدد محاولة السيطرة على حركة العولمة وفق لغته ووتيرته الخاصة ووفق مصالحه الكبرى. وهذا أمر معاكس لما هو سائد من قراءات تبسيطية وسطحية في الأوساط السياسية والإعلامية ودوائر النخبة الأكاديمية الغربية تتنبأ بتحلل الإسلام وتفكك أوضاعه تحت تأثير حركة العولمة
العدد 35 - الخميس 10 أكتوبر 2002م الموافق 03 شعبان 1423هـ