استعان شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي خلال لقائه في منتصف سبتمبر/ أيلول الماضي مع رئيسة أندونيسيا ميغاواتي سوكارنو بحضور ملكة سبأ الباهر للتدليل على موقف الإسلام المتسامح تجاه المرأة وكيف أنه يمكن للمرء أن يستخلص أنه بورود قصتها في القرآن فإن من حقها أن تكون رئيسة للجمهورية! وليس هذا بالطبع موضوع هذا المقال بقدر ما هو شأن بلقيس التي تصاحب ذكر شيخ الأزهر لها في جاكرتا بعودتها إلى الأضواء وهذه المرة في لندن إذ يستضيف المتحف البريطاني ومنذ 9 يونيو/ حزيران وحتى 31 أكتوبر/ تشرين الأول ما يزيد على الـ 300 قطعة في معرض بعنوان: «ملكة سبأ: كنوز من اليمن القديم». قبلها كانت باريس محطة أخرى لها ولحكايتها حين أصدرت الباحثة الفرنسية فاليري جوانزاليس كتابا عن الفن الإسلامي قارنت فيه بين التجريد لدى المبدعين المسلمين وكبار رسامي القرن العشرين. واستعانت المؤلفة الفرنسية أيضا بحكاية سيدة اليمن لاكتشافها أبجدية الجمال في الفكر العربي.
وكل هذا ولم يأت أي من الباحثين بشيء ملموس عن هذه المرأة، ولم تنجح محاولات الإتيان بها من عالم الخرافات والأساطير إلى حيز العلم والتوثيق والتدليل. الكل يدعي وصلا ببلقيس وهي تبتعد وتختفي وراء الأستار. سليمان استضافها، وملوك الحبشة ادعوا لما يزيد عن الألفي والخمسمئة عام أنهم من نسلها. عصر النهضة في أوروبا كان محطة فنية أخرى وهوليوود لم تتمكن من تجاهلها. ولكن من أين البداية...
أشهر الملوك
ربما من لندن التي جمعت هذا العدد من القطع للعرض، ولم يتردد المتحف البريطاني العريق في أن يضمها جميعا تحت راية بلقيس على رغم أن أيا من تلك اللقى الأثرية لا تأتي بدليل على وجود سيدة سبأ. فهل الغرض تجاري بحت؟ ربما. فمن يعرف من ملوك اليمن القديم أسماء مثل شمر يرعش أو ذي يزن؟ أوليست هي أشهرهم قاطبة؟. ومن يجهل السيدة التي تفردت بكونها الوحيدة من بنات جنسها التي ذكرتها الكتب السماوية الثلاثة؟... تضم القطع الثلاثمئة كل ما هو جميل وكل ما هو قيّم في المكتشفات الآثارية اليمنية ولكن ليس من بينها ما يثبت وجود هذه الملكة. تعكس الكثير من تلك المعروضات أهمية السيدة اليمنية ووجودها عبر القرون ولكن أيا من المكتشفات لا يسعف ولا يشفي الغليل. بل لا نجد إشارة إلى ملكتنا بين ثنايا أي من الـ 10000 نقش، والتي عثر عليها في العقود الماضية وكتبت بلغات سبقت الإسلام وعرفت بلغة جنوب الجزيرة العربية.
تأتي الرواية التوراتية ضمن تراث تمجيد سليمان وعظمة ملكه: فالثرية، القوية، الحاكمة بأمرها بين شعب متحضر مسلح، تقدم الولاء بدورها إلى الملك المبرز. تَقدِم إليه محملة بالهدايا من بلد النوادر والسلع الفريدة وأهمها البخور، تأتي لتقدم فروض الولاء والطاعة، ولتبرز الإعجاب بالملك وبحكمته وسطوته وثرائه. أما الرواية التي وردت في العهد الجديد في إنجيلي متى ولوقا فليست سوى استعادة مبتسرة لما ورد في العهد القديم.
ولكن المعرض شكل موقعا مهما ليس للإطلال على تاريخ بلقيس فحسب وإنما لمعرفة الجوانب الملموسة لحضارة اليمن القديمة التي لاتزال مجهولة لقطاع واسع من المختصين العرب دعك عن الجمهور. كما شكل محطة التقاء لسبعة وعشرين باحثا دوّنوا ما توصّلوا إليه من نتائج في تاريخ اليمن ومدنيته وجمعوا ذلك في مجلد يرافق المعرض ويضم صورا للقطع التي عرضت.
الرواية القرآنية
حضور الملكة الإسلامي يرتدي طبيعة مختلفة. فسليمان وحكاياته والملكة وزيارتها ترد لإعلاء شأن التوحيد ولتبيان كيف أن ما يحدث في الأرض وبين الناس إنما هو بتدبير إلهي وتأكيد أن الإسلام هو الطريق القويم وهو الصراط الذي يسير عليه من امتلك بصيرة يقرأ بها الأمور ويعتبر بها في الحوادث.
على أن الباحثة «جونزالس» تأتي في كتابها الأخير برؤية ذات طابع آخر للآيات القرآنية التي تورد قصة الهدهد واختفائه وعودته إلى سليمان والتي تتضمن ذكر بلقيس. فقد ورد في سورة النمل (44):
«قيلَ لها ادخلي الصرح فلما رأتهُ حسبتهُ لّجة وكشفتْ عن ساقَيْها قال إنهُ صرحٌ مُمرّدٌ من قَوَاريرَ قالتْ رَبّ إنّي ظلمتُ نفسي وأسلمتُ مع سُليمان للهِ ربّ العالمين».
وكان سليمان قد دعاها إلى دخول القصر أو ساحته أو بركته فحسبت ما رأته ماء غزيرا فقال لها سليمان إنما هو مملس أو مسوّى من زجاج شفاف فأشارت بلقيس وإذ أخذت بالحدث إلى أنها قد سلكت طريق الخطأ وأنها تعود إلى طريق الحق والإسلام.
وتقدم «جونزالس» لمحاولتها هذه بالقول إن هذه الرواية القرآنية تسير بتناغم مع النظريات الحديثة في علم الجمال. فحين الأخذ بالقصة حرفيا فهي تمكن من الخروج بجدل جمالي قائم على نص ذي طابع أدبي. فالآيات توفر لنا عرضا متجردا لعنصر جمالي، يرد أساسا من تجربة منفردة للشخصين الوارد ذكرهما. تتمثل هذه التجربة في انخداع بصر ملكة سبأ إزاء القطعة الزجاجية التي استخدمها الملك سليمان في قصره. شكلت هذه التحفة جزءا من بناء معماري يقع ضمن حيز مكاني محدد، ليأتي فرد من البشر لينظر إليها، وهي هنا بلقيس التي تستوعب المنظر أمامها من خلال تجربتها وباستخدام مقياسها البصري الذاتي (مقارنة هنا بالموضوعي). وتعتقد «جونزالس» بأن كل هذه العناصر مجتمعة تؤكد أن النص القرآني يروي تجربة جمالية في عالم الأشياء المنظورة وهو هنا الفن والمعمار. وتضيف أن مثل ذلك العرض، وبعيدا عن المنحى الديني، يمتلك قدرا كافيا من الأدلة لبناء نظرة جمالية تستشف منها رسالة يمكن قراءتها.
ومثل غيرها من الأمور فإن تحليلات «جونزالس» تعيدنا إلى محاولة اكتشاف السبب الذي يعطي لتلك الشخصية حضورها الآسر والذي يجعل لروايتها محدودة التفاصيل غنية بجوانب تتوالد منها إبداعات لا تحد. فهل يمكن لشخصية لم توجد أبدا بحسب الدراسات والوثائق والكشوف أن تكون موجودة بحكم الخيال والاختراع. وهل احتاج العربي القديم إلى تلك المرأة لتجسيد حضور معين. فليس ورودها في التوراة تأكيدا جازما على وجودها، وهناك من يعتقد باحتمال أن يكون اسم الملكة قد زج لاحقا وبعد عصر سليمان ضمن محاولات إضفاء عناصر العظمة والأبهة على الملك.
فبلقيس هي من الشخصيات التي تثير الإشارة إليها الكثير من الأسئلة، أكثر مما تعطيه من إجابات. ولكن الملكة لا تهتم ولا تكل ولا تمل من الأضواء وكأنها من مشاهير عصرنا الحالي: قد عرفت لعبة الإعلام فأتقنتها. لا تحفل وإن أرهقت الأكاديميين إذ استعسر العثور عليها بين الكتب أو بين النقوش أو وسط حفريات الآثاريين، فهي موجودة بوجودها الإعلامي وقدرتها على إلهام المبدعين. أولا يحار كثير من أساتذة الجامعات في تفسير جوانب كثيرة من حضور الراحلة ديانا أو شخصيات معاصرة مثل ديفيد بكهام أو زوجته بُش/ فيكتوريا؟... وإذا كانت المعتقدات الدينية أو الهيام الأوروبي بالشرق ضمن منظور معين هو ما كان وراء إبداعات فناني القرون الماضية ومخرجي هوليوود فإن ذلك التأثير مستمر إلى يومنا هذا وآخر من استلهم أسطورة الملكة الغامضة الفنانة البرازيلية الأصل الواسعة الشهرة في بريطانيا «أنا ماريا باتشيو» منذ حصلت في العام 1973 على جائزة المجلس الثقافي البريطاني للدراسة في «مدرسة سليد» للفنون المعروفة. ولقد رسمت مجموعة من اللوحات حاولت فيها أن تبحث في موضوع ملكة سبأ وسليمان، عرضت إحداها في معرض المتحف البريطاني وقد رُسمت العام 2001. واللوحة تظهر الملكة وقد رفعت طرف ثوبها اتقاء البلل بعد أن ظنت أن سطح الأرضية إنما هو سطح ماء. ولاتزال لندن مبهورة بالمعرض وبالمرأة، والأسطورة مستمرة
العدد 36 - الجمعة 11 أكتوبر 2002م الموافق 04 شعبان 1423هـ