تعيش الدول الإسلامية، والمجتمعات المحافظة احتداما داخليا خطرا، كونه يتصل بمنظومتها الأخلاقية، ويطال بنيتها القيمية، التي تؤسس مقولاتها المعرفية، وتحدّد سلوكها ونظرتها وطريقة تعاملها مع المتغيرات والشئون الحياتية، اليومية منها، أو المتعلقة بالقضايا الكبرى والاستراتيجية.
هذا الاحتدام تزداد وتيرته في المجتمعات ذات الطبيعة الحيوية، والتي تمثل بيئة خصبة لتوالد الأفكار وتثاقفها، والتي يمثل التجاذب الفكري والاجتماعي والسياسي خبزها اليومي ووقود حركيتها الدائمة، كالمجتمع الإيراني.
المجتمع الإيراني، ولكونه مجتمعا مسلما محافظا، حاله حال باقي المجتمعات المتدينة، ترتكز مفاهيمه على الدين بشكل رئيس، وتحكمه حكومة دينية، تتخذ من الشريعة مادة قانونها وشرعِيَتِها. هذا المجتمع يعيش تماوجا مضطردا في منظومته الأخلاقية وأمنه الاجتماعي، لأنه وببساطة مجتمع مستهلك للثقافة ومتلق لها، متلقِ لتأثيرات العولمة وإعلامها وقيمها الموجهة، من دون أن تكون لديه ممكنات المقاومة والتغيير، على رغم سعيه الحثيث للتقليل من سلبيات العولمة، وتقديم نموذج مغاير لها.
ربما لا يختلف المأزق الأخلاقي في إيران عن باقي الدول الإسلامية، ولكن ما يجعله محط قراءة ودراسة، كون إيران تقدم نفسها بوصفها «تجربة جديدة» ونوعا من التوليفة القائمة على التزاوج بين «الإسلام» و«الديمقراطية»، ساعية لتكوين مجتمع «مدني» مسلم، ليكون «أنموذجا» لباقي المجتمعات، خصوصا بعد تولي محمد خاتمي رئاسة الجمهورية. كما أن الإيرانيين ذاتهم، يصرون على خوض هذه التجربة، وتعزيز فرص نجاحها لأنه «لو فشلت تجربة الجمهورية الإسلامية، فإن يأسا عظيما سيحل في العالم الإسلامي» كما يرى الرئيس خاتمي.
المشكلة الأخلاقية في إيران في اتساع مطرد، على رغم محاولات تطويقها. فالمخدرات، وجرائم السرقة، والسطو، منتشرة، والمومسات، وبيوت الدعارة تزداد بشكل ملفت. فقد جاء في صحيفة «جمهوري إسلامي»: «إن نشاط المومسات القادمات من بلدان آسيا الوسطى قد ازداد في مدينة مشهد المقدسة... ومنذ بداية العام وحتى يومنا هذا أغلق جهاز الشرطة وبالتنسيق مع السلطات القضائية ومع أهالي مشهد 70 منزلا من منازل الفساد». هذا فضلا عن باقي المشكلات الجانبية الصغيرة، كتنامي العلاقات غير المشروعة بين الصبايا والشباب، والتفلت والتحايل على الحجاب عبر التخفف منه، وازدياد نسبة المعاكسات الهاتفية، كما جاء في صحيفة «سياست روز» على لسان مسئول العلاقات العامة لمؤسسة الهاتف في مدينة قم، الذي أشار إلى أن المؤسسة تسلمت أكثر من 3500 شكوى من العوائل التي تعرضت للمضايقات الهاتفية خلال 6 أشهر فقط، وعرفت منها 2034 حالة.
هذه المشكلات المتراكمة في مجتمع محافظ كالمجتمع الإيراني، من شأنها أن تخلق قلاقل اجتماعية، وجوا من التوتر الداخلي، يجعله معرضا للتجاذب والتراشق في أية لحظة، كما حدث قبل عدة أسابيع، عندما ثارت مشكلة كبرى، وتجمهر مئات من الأشخاص من أهالي «يزد» في مسجد «الحضيرة» منددين بالممثلة الإيرانية «كوهر خيرانديش» التي طبعت قبلة على خد مخرج مسرحي شاب في ختام مهرجان «الحقيقة» السينمائي.
إن قبلة كهذه، أحدثت كل هذا الإرباك، وحشدت كل هذه الأصوات، التي طالبت بمحاكمة الممثلة وتأديبها، واضطرت مرشد الثورة آية الله علي خامنئي، أن يدخل على خط المشكلة مؤكدا أن «الأمن الأخلاقي هو من أهم المقولات التي يحتاجها الشعب... وأن الناس يتوقعون ألا يشاهدوا أي مشهد للشوارع يسيء إلى ضميرهم الديني'، داعيا قوى الأمن الداخلي إلى أن «تتصدى لجميع المسائل المحظورة من الناحية الأخلاقية».
إن هذا التدخل المباشر من مرشد الثورة آية الله علي خامنئي، يعكس مدى حساسية المسألة الأخلاقية، حكوميا وشعبيا، والخوف المسيطر من عدم القدرة على احتوائها. لكن مجرد الخوف والقلق لا يكفيان، ما لم يكن هناك رشد فكري، وبرنامج عملي مرن، يعمل على تلمس أسباب المشكلة، وسبل علاجها.
إن المسألة الأخلاقية في إيران لا تنفك عما يحيطها من تداعيات على صعد مختلفة، فهي نتيجة طبيعية للتردي الاقتصادي، وازدياد البطالة، مما يدفع جزء من الجيل الجديد لاختيار خيارات أخرى تسد عوزهم المعيشي، كامتهان الدعارة، أو التجارة في المواد الممنوعة، وربما يتخذ البعض هذه الوسائل، كمهرب نفسي وذاتي مما يعانيه من فقر ومشكلات اجتماعية. لذلك فالمسألة الأخلاقية مرتبطة بجزء كبير منها بالوضع المعيشي والاقتصادي، وفي حال التمكن من حل المشكلة الأخلاقية، ستنتفي الكثير من المشكلات الاجتماعية كونها تابعة لها.
إضافة للبعد الاقتصادي، ترتبط المسألة الأخلاقية، بالأداء الفكري والثقافة المسوقة داخل أجهزة الحكم والمجتمع. فالوسائل الإعلامية الحديثة، وما توفره من صيغ تواصل مفتوحة وسلسة ومتوافرة للكثير الكثير من الناس، أدت لتبدل الكثير من المفاهيم، والنظر للكثير من المسلمات والقيم نظرة تشكيكية نسبية، أضف لذلك ما توفره هذه الوسائل الحديثة من بدائل أقل كلفة وأكثر متعة، سيكون من شأنها أن تؤثر على الجيل الجديد وتجذبه نحو مفاهيمها وقيمها الحديثة.
هذا الإنشداد للتقنية الحديثة، وثقافة الإنترنت والفضائيات، لم يصاحبه تصاعد في بنية الخطاب الثقافي الديني التقليدي في الحوزات العلمية، واقتصر استخدام الحوزات للتقنية الحديثة على نوع من التحديث وليس الحداثة، من دون أن يؤدي ذلك لخلق نوع من التواصل واللحمة الحقيقية مع الجيل الجديد، ما خلق هوة شاسعة، كرستها المقولات المختلفة، واللغة المتنافرة، وزادتها عزلة التجاذبات السياسية والتوترات والمشادات الكلامية التي حدثت في السنوات الأخيرة في عهد خاتمي، ما جعل الهوة تتجه لنوع من القطيعة الخطرة، التي إن لم يتم تداركها، ستقود لانقلاب حاد على مفاهيم الحوزات وعلماء الدين، خصوصا مع وجود طبقة منتفعة من رجال الدين، تعمل على تكريس مفاهيم مغلوطة، بغية تحقيق مصالح ذاتوية وفئوية، دون أن يعيها ما قد يحدثه هذا السلوك البشع من مشكلات إجتماعية.
العوز الاقتصادي، والتباين الثقافي والفكري، والإعلام العولمي الموجه القائم على الثقافة الاستهلاكية، زاد عليه اتخاذ المسألة الأخلاقية ورقة تجاذب سياسي بين الفصيلين الرئيسيين في إيران «المحافظون»، و«الإصلاحيون»، فكل فريق يرمي الكرة في ملعب الآخر متهما إياه بأنه السبب في انحسار القيم الدينية.
المحافظون يعتبرون أن دعوات الانفتاح، والحرية، والممارسة اللينة التي يمارسها تيار «الإصلاح»، هي السبب في الانفلات الحاصل. فيما «الإصلاحيون» يرون أن التشدد، والتزمت، والخطاب الكلاسيكي للتيار «المحافظ» هو سبب بُعد الشباب عن القيم الدينية، لتظل المسألة ورقة سياسية يتجاذبها الفريقان، فيما الضحية هم من يبعن أجسادهن، أو يستخدمن المخدرات، بغية تأمين لقمة العيش، والخروج من ضغط الحياة اليومي.
إن إيران لن يكون بمقدورها أن تقدم النموذج الذي تصبو إليه، مادامت حبيسة تجاذباتها السياسية، وما لم تركز على جذر المسألة، مهتمة بالجنبتين: الاقتصادية، والثقافية، لكونهما حجر الزاوية في الموضوع، ومن دون الاشتغال عليهما بجدية ستتسع الأزمة، وسيزداد عمقها، وستسود حال من الإحباط بين أوساط الشعب، فالجوع والتفسخ، من شأنهما إفشال التجربة، وإبعاد الناس عنها
العدد 56 - الخميس 31 أكتوبر 2002م الموافق 24 شعبان 1423هـ