العدد 56 - الخميس 31 أكتوبر 2002م الموافق 24 شعبان 1423هـ

جامع الفاضل بين القيم الجمالية والقيم الروحية

تشهد عمارة المساجد في البحرين طفرة هائلة من حيث التكوين المعماري الذي تتوافر فيه قيم ثابتة راسخة برسوخ القيم الدينية والروحية والأخلاقية التي يغرسها في كل أبناء الجيل الحالي والذي سيشهد بدوره على الاهتمام البالغ من المسئولين لوجوب الالتزام بالتقنيات الحديثة والحفاظ على التراث العريق الذي يحمل عبق الماضي ولا يخلو من القيم المعمارية والجمالية والأخلاقية.

ويعتبر مسجد الفاضل من أقدم جوامع البحرين، إذ يبلغ عمره ما يقارب 150 عاما. وجامع الفاضل يقع في المنامة بحي الفاضل. ويذكر أنه قد أعيد بناؤه أكثر من مرة، وقد كان في أول الأمر من دون مئذنة، إذ أمر الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة ـ رحمه الله ـ بإقامة مئذنة له في العام 1357 هـ. ويتميز جامع الفاضل حاليا بجمال معماري مميز، إذ كان هناك جمع بين عدة طرز معمارية إسلامية في زخرفته حديثا إلا أن منارته لاتزال كما هي ولم يتم فيها أي تعديل منذ نشأتها وهي من نوع فريد في الشكل وحتى في أسلوب التنفيذ ويبلغ طولها حوالي 130 قدما، ويوجد بداخلها 122 درجة سلم وعند النظر إليها تعطيك الإحساس بالشموخ وتأخذك الدهشة والتعجب من كيفية تنفيذها بهذه الرشاقة والرفعة، إنها بلا شك تحمل معاني إنسانية وقيما روحية تجعل الفرد المسلم يفخر بانتمائه إلى الإسلام وتعمق الانتماء إلى تلك البقعة التي ستظل تعبد الله وتساهم في نشر دينه الحنيف.

ومن المعروف أن عائلة آل سعد تولت مهمة إمامة المسجد والخطابة فيه منذ بنائه وحتى الآن، ويتولى إمامته حاليا الشيخ إبراهيم بن عبدالله آل سعد الذي يعمل قاضيا شرعيا في محكمة الاستئناف العليا الشرعية.

والمسجد في هيئته الخارجية مستطيل الشكل وله خمسة مداخل منها مدخلان في واجهته، ومدخل على جانبه الأيمن، ومدخلان آخران على الجانب الأيسر، وتعلو كل المداخل قبة صغيرة نصف كروية عليها زخرفة بارزة تمثل شريطا إسلاميا يأتي بسمك عريض من بداية القبة ثم تلتقي الأشرطة في نقطة أعلى المنتصف، ولكل مدخل يوجد على جانبيه زوجان من الأعمدة التي لها تاج جصي يمثل مقرنصات صغيرة تلتف حول أعلى العمودين، وتوجد أعلى كل مدخل من المداخل مجموعة من العرائس الجصية التي تزين حافة المسجد بأكمله، تلك العرائس الجميلة، تعتبر نهاية جميلة لمبنى المسجد، وهي تقلل من حدة الانتقال بالعين من حافة جدران المسجد إلى السماء مباشرة، وجاءت العرائس لتحدث نوعا من التوازن البصري عندما تتخلل السماء نهاية الجدران، ومن خلال الفتحات البينية والناشئة من تجاور الوحدات تاركة فراغا بينها، فهنا يحدث تزاوج في الرؤية فيتخلل الجدار السماء ويتخلل السماء الجدار وتشعر العين بأنهما نسيج واحد، فهو من زاوية أخرى كناية عن اتصال الأرض بالسماء، أي اتصال العبد بالرب، وتبدو العرائس أحيانا وكأنها أيدٍ ترفع أكفها تضرعا إلى الله، ويوجد في واجهة كل مدخل لفظ الجلالة.

ويتميز المسجد بمنارته العالية التي تتمتع ببساطة ورشاقة من حيث كونها قائمة بذاتها خارج جسم المسجد، وتوجد في الركن الأيمن للمسجد، وهي مربعة الشكل في قاعدتها بالنسبة إلى طولها الفعلي، ثم يبدأ الشكل الثاني ليخرج في نهايته شباك بسيط من الحديد، ثم ينتقل بنا المصمم العبقري إلى تلك المئذنة بالشكل الدائري والذي يبلغ طوله أكبر من نصف طول المئذنة الكلي، وتنحرف المئذنة من محيطها الدائري إلى المركز انحرافا بسيطا كلما انتقلنا إلى أعلى، أو قد تكون جاءت لتفيء السلم الداخلي للمنارة.

ومن الشاهد على عبقرية بناء تلك المئذنة أنها مبنية من الحجر البحري الذي يتكون على هيئة أشكال هولامية غير منتظمة عندما تتراص مع بعضها تتماسك وبقليل من المواد الرابطة الأولية، كما أخبرنا المهندس المعماري إبراهيم المؤيد الذي تولى شرف تجديد المسجد، وبعد الجسم الاسطواني الفارع في الطول يأتي الشباك الثاني للمئذنة في شكله الجميل والذي له خروج بسيط ومتدرج لأعلى وعليه السياج الحديدي، ثم ترتكز على الاسطوانة مجموعة من الأعمدة في شكل جميل ولها نهاية متصلة ببعضها وهي تذكرنا بالأعمدة الهندية في العهد المنغولي، ثم يعلوها إكليل من العرائس ثم تأتي القبة ذات القوس المنكسر، وبتلك النهاية الجميلة للمنارة والتي جعلتها من أجمل المنارات الموجودة في البحرين والتي لم أشاهد مثيلاتها في العالم الإسلامي فهي مميزة بذلك الطرح البسيط على السطح من القاعدة المربعة ثم الجسم المثمن ثم الجسم الاسطواني الدائري الفارع في الطول والذي يعكس بعدا فلسفيا ووظيفيا أدركه المصمم المسلم لتلك المئذنة ثم النهاية الجميلة التي توجت أعلى المنارة الشامخة.

والمسجد يتكون من جزء داخلي وساحة خارجية مكشوفة، ويسع المسجد من الداخل حوالي 4821 مصليا، كما يستوعب حوالي 300 مصلٍّ في الساحة الخارجية. والمسجد من الداخل يضم 19 رواقا في خمسة صفوف من الأعمدة غير الملحق الخارجي، والرواق هو صفوف الأعمدة المتصلة ببعضها من أعلى لتتحمل ثقل السقف وتنشأ من اتصال الأعمدة مجموعة أقواس منكسرة التي نشأت من أعلى تيجان الأعمدة المنتشرة داخل المسجد. والأعمدة داخل المسجد ثمانية الشكل وتحمل على جوانبها الأربعة مصاحف للقرآن الكريم في منتصف العمود، كما يوجد أعلى كل عمود تاج متدرج لأعلى وينتصفه شريط من الزخارف النباتية البارزة.

وتوجد في منتصف كل سقف سرة جعبية بها زخارف جميلة تتدلى منها نجفة كريستالية في شكل بديع، ويوجد على جانبي الأسقف عند التقائها بالجدران شريطان من الزخرفة الهندسية والنباتية تتبادل بين حدودي السقف والجدران وبطول مساحات المسجد.

وللمسجد محراب روعة في جماله البسيط وهو مربع الشكل من الواجهة الأمامية ويحيط به من الخارج شريط عريض وليس به أعمدة من الخارج، وتوجد على واجهة المحراب آية قرآنية نصها «فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب»، والآية خطت بالخط الكوفي وعليها زخارف بسيطة ولونت بلون ذهبي مطف ولون المحراب أبيض كلون باقي جدران المسجد.

ويوجد على جانبي الآية شكل زخرفي مربع يحوي زخارف غائرة من عناصر هندسية، ونشاهد في المستوى الثاني المنحني عن سطح الآية زاويتين متدرجتين في تتابع جميل نقشت على واجهة الزاويتين زخارف نباتية تحدث نوعا من التلطيف البصري لوجود العنصر النباتي، إذ تضفي البهجة والسرور على النفس والخالية من إثارة أية غرائز، ويحيط بالزخرفة شريط بسيط إلى حد ما على شكل مثلث ضلعاه ملتصقان بجانب وأعلى واجهة المحراب، أما الضلع الثالث فهو منحنٍ ومتدرج إلى الداخل وذلك ليسحب نظر العين إلى التجويف الداخلي للمحراب، وهناك مسافة ليقف فيها الإمام وهي ساحة المحراب وعرضها يقارب مترين بين البرواز الخارجي للمحراب وواجهة المحراب الداخلية.

والمحراب الداخلي غاية في الجمال النسبي وهو مستطيل الشكل وله عدة تدرجات تبدأ بارزة عن المستوى الفعلي لساحة المحراب الداخلي، وتوجد أربع مستويات تحيط بالمحراب وتأخذ أعيننا للداخل، إذ نجد تجويف المحراب النهائي.

لقد نجح المصمم المعماري الإسلامي في توظيف تلك التتابعات المرئية للتحكم في توجيه مسار النظر لكل عنصر ولكل أجزاء المسجد على حدة وبدراسة واعية لأولويات الأجزاء التي يحتويها المسجد ورسم مسار للرؤية.

ومحراب المسجد يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء، الجزء الأول منه عبارة عن أشرطة رأسية بارزة متصلة في أعلاها وتحتوي على زخارف نباتية وهي على هيئة أعمدة وتنتهي بشريط زخرفي بسيط ثم الجزء الأوسط الذي يتكون من زجاج بارز ومتراص فوق بعضه تاركا فراغا خلفيا له، ويضم غالبية سطح المحراب على الجانبين ثم يعلوه شريط زخرفي بسيط، أما الجزء الثالث العلوي من المحراب فيعلوه نصف طبق نجمي ثماني الشكل وقد امتدت خطوطه إلى أسفل مع دوران المحراب في شكل جميل.

كما يحيط بالمحراب من الخارج وفي مستوى أقل من مستوى التدرجات شريط غائر بزخرفة بارزة حتى منتصف المحراب ثم يليه شباك مستطيل من الزجاج. ويوجد في المحراب على جانبه الأيمن من الساحة شباك ويقابله على اليسار باب دخول الإمام.

ونشاهد على يمين ساحة المحراب منبر من الخشب المزين بالأرابيسك وهو عبارة عن قطع من الأخشاب المعشقة والمتداخلة مع بعضها تاركة فراغات بينية في شكل جميل والمنبر في جملته بسيط وقصير الطول.

وأهم ما يميز المسجد في الخارج عدد الأبواب التي تبلغ 19 بابا خارجيا أمام الأروقة، ما يسهل عملية دخول وخروج المصلين وخصوصا يوم الجمعة، ومن هنا سمي المسجد الجامع.

ويحدثنا المهندس إبراهيم المؤيد عن أهمية المسجد قديما وحديثا من حيث اعتباره من أجمل مساجد البحرين، وخص بالأهمية منارته العالية التي كانت تكسى في الماضي بالقاشاني الهندي وبألوان جميلة، وعليها زخارف بارزة ومطلية بالطلاء الزجاجي، إذ انتشر ذلك النوع من القاشاني في تلك الفترة التي تم بناء المسجد فيها.

كما أن المسجد تم تجديده أول مرة العام 1962م على يد المهندس الإيطالي باتروكي الذي أدخل قطع السيراميك الصغير في زخرفة المنارة وحشا بها سطح المنارة من الخارج، ثم تم تجديده ثانيا العام 1995م بإشراف المهندس إبراهيم المؤيد وقام بعمل واجهات جديدة وقام بتغيير الأسقف وتقويتها بالمقرنصات والكرانيش الخارجية وهي الحال التي عليها الآن، كما تمت إضافة سور جديد إلى المسجد الذي يحيط بالساحة الخارجية وهو يطل على شرفات تضم أطباقا نجمية جميلة بدلا من السياج الحديدي القديم، وتمت إضافة دار للمناسبات حديثا العام 2001م، وكان تجديد المسجد الداخلي على نفقة سمو الأمير الراحل الشيخ عيسى طيب الله ثراه، أما نفقات التجديدات الحديثة فتولاها عظمة الملك الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة حفظه الله ورعاه.

لقد تمتع جامع الفاضل بجمال معماري مميز، عكس لنا ذلك الجمال الروحي للدين الإسلامي، ولعبت تلك العمارة دورا مهما في نشر الوازع الجمالي وغرس القيم الجمالية داخل النفس البشرية وإكسابها حب الإقبال على الحياة والإخلاص في العمل، تلك هي الوظائف المادية والجمالية التي لا تقل أهمية عن الدور الريادي الذي يؤديه المسجد للبحرينيين من نشر الوعي الديني والأخلاقي وترسيخ للقيم الإسلامية السمحاء لهم ولمحبي العمارة الإسلامية

العدد 56 - الخميس 31 أكتوبر 2002م الموافق 24 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً